كان الوقتُ ظهراً في مصيلح. رياح ربيعيّة خفيفة تُحاكي «الأخضر المتدرّج إلى الأصفر»، اللون المعتمَد للوائح حركة أمل وحزب الله. يعود «اللون» إلى مصيلح في مواسم الانتخابات. يستنفر «فريق العمل». ينسِّق «رجال الرئيس» نبيه بري مواعيده والإجراءات اللوجستيّة والأمنية. يستمدّ هؤلاء نفوذهم من وجودهم على مسافة قريبة من مكتب «دولتو». يتحرَّكون على إيقاع «الباب العالي». يَخرُج من مكتب الرئيس ضابط برتبة عالية أنهى للتو لقاءه به، فينادي بري من الباب: «وينهن جماعة الأميركيّة؟». يستقبلُ صبيّة وشاباً من الجامعة الأميركية في بيروت جاءا يعرضان عليه مشروعاً أكاديمياً. بعدها، تدخل عائلة صغيرة ولا تمكث أكثر من دقيقة واحدة، يليها وفدٌ نسائي من «أمل». تمتلئ «قاعة أدهم خنجر» بأكثرَ من أربعمئة شخص من وفود بلدية واختيارية من مناطق النبطية ومرجعيون وبنت جبيل وحاصبيا. يخرج الرئيس مرّة أخرى، ولكن إلى القاعة الأحبّ إلى قلبه هذه المرّة. في الصورة المثبتة خارجاً يقف أدهم خنجر «فقيد العرب ضيف سلطان باشا الأطرش»، شاهراً سلاحه. على منبر «لبنان الأمل» يقف نبيه بري مزهوّاً بعد ثلاثة عقود من وقفته الأولى في المكان ذاته أمام جمهور المهنّئين بفوزه بأوّل انتخابات نيابية بعد الحرب الأهلية.
يمارس الرجل «لعبته المفضّلة» في إدارة المعارك الانتخابية، شاهراً «أسلحته» لخوض ما يصفه بـ«العرس الديمقراطي».
يُحدِّث برّي الحضور المتنوّع عن «جذور العائلة اللبنانية الواحدة»، ويؤكد «أن الجنوب صخرة الوحدة الوطنية». يخاطب رؤساء المجالس البلدية والاختيارية بالقول: «إنتوا إلكُن فضل عليّ». يعرف برّي كيف يخاطب هذا العدد من رؤساء بلديات ومخاتير في لقاء واحد. تضجّ القاعة بأحاديث القرى وأهلها. الدور عليهم الآن وبـ«النظام». أوّل الكلام لمختار من «العرقوب» شدّد على «هوية المنطقة المقاوِمَة». يفتتح رئيس بلدية عيترون «سوق عكاظ» المطالب الخدماتية، مستفسراً عن زيادة أسعار التبغ والرُّخَص والضمان الاجتماعي. يمازحه برّي: «هالزيتونات اللي كانوا عأوّل الضيعة كانوا حلوين رْجَعوا ازرعوهن». يحذّر رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل من احتمال إغلاق مستشفى بنت جبيل الحكومي، فيما يشير رجل آخر إلى «سوء توزيع أموال البلديات». يأخذ مختار بلدة الخيام الدور ويثير إشكالية «التأخير المتعمّد في استخراج بطاقات الهويّة»، فيسأله بري: «معو خبر علي حسن خليل بالموضوع؟». رئيس بلدية حاصبيا يطرح مشكلة تصريف زيت الزيتون. أحد مخاتير حاصبيا يقول له: «نحنا السُّنّة بهالمنطقة ما إلنا غيرك يا دولة الرئيس»! يلفت رئيس بلدية كفرحمام إلى مجموعة مطالب تتعلق بشجر الصنوبر ومشكلة الصرف الصحّي وتوسعة الطريق بين كفرشوبا وسوق الخان. يعقّب الرئيس بري: «وينوّي محمد سرور؟ عيطولو، وخلّوه يعمل ملف بالموضوع».
منذ عام 1992 حتى الآن، لم تتغير لائحة المطالب المحلية. يطالب رئيس بلدية «الميري» بحسبة خضار في النبطية، ويشكو آخَر مزاولةَ القاضي العقاري للنبطية دوامه الرسمي في صيدا. يطرح رئيس بلدية «أنصار» ملف المشاعات وطريق أنصار ـــ أبو الأسود وأزمة الكهرباء. يطالب رئيس بلدية «الخلوات» بسرايا حكومية في حاصبيا، ويسأل آخر عن تعويضات مجلس الجنوب لأهالي كفرشوبا. يُحدِث بعض الحضور جلَبَة في القاعة المكتظّة. يمازحهم بري: «يا إخوان بعدني ما رفعتش الجلسة». ينبري أحدهم مخاطباً بري: «دولة الرئيس، منتمنّى إنو نرجع نشوفك هون عطول». يردُّ بري: «أنا غبت عن الجنوب لأسباب أمنية، ولكن ضلّيت عم إستقبل الناس ببيروت». انتهى اللقاء، ومثله لقاءات أخرى، بوعود كثيرة «بما أستطيع تنفيذه أو متابعته»، على ما يقول برّي، وأيضاً بتقديم «شوكولا لبنان الأمل». غداً يوم آخر!
«غرفة عمليات» انتخابية
الطريقُ إلى مصيلح تمرُّ بـ«أوتوستراد الإمام موسى الصدر» الذي لم يُنجَز نهائياً بعد. يشكو الجنوبيّون مَحارقَ النفايات على جانبَي الأوتوستراد، وعتمةَ الطريق ليلاً. قبل أسبوعين أضاء مرشّحون ومناصرون للائحة المنافِسَة في «الزهراني ـــ صور» شُموعاً و«لَعنوا الظلام» أيضاً. في الطريق إلى مصيلح تحضر شعارات «القوات» و«التيار الحر» الانتخابية ولوائح أخرى معارِضة لـ«الثنائي». قد تكون حملة «أمل» الانتخابية هي الوحيدة التي استخدمت صوَر مواطنين عاديّين بدَل صور مرشّحيها الذين لم يتغيّر معظمهم منذ سنوات طويلة.
مِن منزله في مصيلح، يدير برّي معركته الانتخابية في كل الدوائر، ويطلق مواقف شبه يومية خلال فترة «معسكره» الانتخابي. في مصيلح أيضاً (مجمّع الرادار) تتّخذ اللجنة الانتخابية لـ«الحركة» في منطقة الزهراني مقرّاً لها، حيث يترشح برّي منذ لم يعد الجنوب دائرة انتخابية واحدة. «يُحوِّل» الرجل كلّ الملفات واللقاءات إلى مصيلح في مثل هذا «الموسم». يمضي معظم يومه «العادي» متنقّلاً بين مكتبه والقاعة الكبرى. أخيراً، أشار رئيس حركة أمل في أحد لقاءاته الانتخابية إلى أهميّة توزيع الصوت التفضيلي على مرشّحي لوائح «الأمل والوفاء»، من دون الإشارة إلى الآليّة المتّبعة. لكن مصادر في اللجنة الانتخابية الحركية تقول لـ«الأخبار» إن آليّة توزيع الصوت التفضيلي «ستعتمد على سجلات نفوس المواطنين، لا على أساس هذه البلدة أو تلك». تؤكد المصادر ذاتها «أن رفع نسبة الاقتراع يوم الانتخابات إلى اقصى حد هو هدف أساسي بالنسبة إلينا»، مشيرة إلى أن الماكينة الانتخابية الحركية «ستتمكّن من إصدار النتائج خلال ساعة من بدء عملية فرز الأصوات».
مصيلح أو «ديوانية المطالب»
لا ينجح «حرَسُ مصيلح» في إقناع امرأة أربعينيّة بتعذر مقابلة «دولته». تصرُّ المرأة على موقفها كمَن قرَّر أن يحقّق «فوزاً معنوياً». تقول: «غيري مش أحسن منّي، وعندي مشكلة بس هوي بيحلها». يسمحُ الحرس لها بالدخول، ولكن إلى مـا يُعرف اصطلاحاً بـ«مكتب العميد سرور». يجول الرّجل الموكَلة إليه مهمّة ضيافة القهوة. قرب الباب الموصل إلى مكتب «العميد»، يُدوّن رجُل آخر مواعيد جديدة ويدقّق في أسماء الأشخاص والوفود. يحضر مواطنون من بلدات جنوبية قريبة أو بعيدة، وكثيراً ما تجمع الحاجة إلى «الواسطة» أشخاصاً من ضيعة واحدة في المكان ذاته من دون علم الطرف الآخر. يعتذر سرور من الحاضرين: «لا تواخذونا تأخّرنا شوي فوق مع دولة الرئيس». اكتسب الرجل ثقة الجميع هنا. إنها خبرة سنوات طويلة من التعامل مع الناس والملفات الخدماتيّة. يشير المقربون من بري إلى أنَّ سرور كان حاضراً دائماً إلى جانب المرحوم الرائد يعقوب ضاهر الذي يُعدّ أوّل من نظّم هذه الآلية، ومن ثم مع النائب هاني قبيسي، قبل أن يصبح المكتب لاحقاً معروفاً باسم العميد سرور نفسه. تحضرُ كل المطالب، من طلب وظيفة، إلى مساعدة استشفائية، إلى حفر بئر ارتوازية، إلى تسوية مشاكل عقارية، إلى طلب منحة جامعية أو حل مشاكل قضائية مع المحاكم ومطالب خدماتية متعددة في ما يمكن عدّه «ديوانية المطالب»!
خلال ثلاثين سنة، تجاوزت مروحة خدمات مصيلح الجمهور الحركي. من هنا، تُفسر حساسيّة ملف قضاء جزين الانتخابي لدى الرئيس بري. هذا «النهج»، وعمره عقود، «ليس سوى تكريس لارتهان اللبنانيين لهذا الزعيم أو ذاك كأحد إفرازات النظام السياسي الطائفي القائم على المحاصصة»، يقول المعارضون للرئيس بري. مؤيدو رئيس المجلس يبرّرون الأمر بالفكرة ذاتها أيضاً: «ما دامت تركيبة البلد الطائفية لا تسمح للمواطن بالوصول إلى كامل حقوقه من دون الاستعانة بغطاء من السلطة، فلنا شرف خدمة الناس»!
الدور والموقع و«الزعامة»
على العكس من زعامة آل الأسعد التاريخية، بنى نبيه برّي «زعامته» متكئاً على «ترِكة الإمام موسى الصدر» ليكرّس لاحقاً زعامته المطلقة داخل تنظيم «أمل» وشبه المطلقة على مستوى الطائفة الشيعية (قبل أن يلمع نجم السيد حسن نصرالله)، مستفيداً من كونه شريكاً رئيسياً في «جنّة السُّلطة» وما تؤمّنه من نفوذ ووظائف وخدمات لا تحصى ولا تعد.
منذ أكثر من ثلاثة عقود، وعلى كتف تلّة صغيرة، وعند مفترق طرق بين صور وصيدا والنبطيّة، اختار برّي أن يبني بيتاً له هناك (صمّمه المهندس عادل نجم)، ناقلاً مصيلح من مجرّد قرية صغيرة مغمورة إلى اسم معروف بدلالة سياسية كبيرة. ومع وصول الرئيس بري إلى رئاسة المجلس النيابي عام 1992 «تحوّل قصر مصيلح إلى مقر رئاسة ثانية غير مُعلن، إلى جانب عين التينة، وصار بمثابة معبر سياسي إجباري لكل الوفود السياسية المحلية والعربية القادمة إلى الجنوب، فضلاً عن كونه مرجعاً للكوادر والقواعد الحركية»، على حدّ تعبير «حركي» عتيق. يقول الرجُل إن «لشخصية الرئيس بري دوراً كبيراً في تكريس حضور مرجعية مصيلح»، مشيراً إلى أن «ما يميّز برّي هو تدخله في تفاصيل التفاصيل في كل القرى، وهو يخاطب كل شخص بلغته، يحصل ذلك مع المختار الأمّي، وكذلك مع الأستاذ الجامعي».
يُقرُّ رجل حركي واكب مراحل كثيرة في مسيرة «أمل» بأن «زعامة مصيلح» أصابها ضمور جزئي بعد عام 2005، ومن ثم في مرحلة ما بعد 2011، بفعل العوامل الأمنية التي حالت دون حضور رئيس الحركة في مصيلح لفترات طويلة، مع الإبقاء على زيارات تذكيرية يُستثنَى منها مواسم الانتخابات، ويضاف إلى ذلك بروز عامل مهم جداً، هو صعود نجم حزب الله، وتحوله إلى لاعب إقليمي، فضلاً عن كاريزما السيد حسن نصرالله الاستثنائية. مع ذلك، يضيف الرجل، استطاع برّي أن يحافظ على حيثيته، فضلاً عن أن الحزب لم يطرح نفسه منافساً لحليفه الأساسي على مستوى الدولة.