قبل عام أو أكثر بقليل، ومع مقدّمات المرحلة التي عصف فيها وباء كورونا بالعالم بالتزامن مع “انهيار” الليرة اللبنانية وما رافقه ويرافقه من أزمات معيشية، أطلّت صبيّة تدعى زهراء قبيسي عبر الشاشة لتتحدّث عن تحويل الأزمات إلى فرصة، وعن التصرّف بإيجابية مهما بدا المشهد معتمًا.. وكان لحديثها ذاك صدى ما زال يتردّد في قلوب من ردّد معها بحبّ عبارة “نحنا ما مننهار”، وارتدادات لم تزل تهزّ كيانات من اتخذوا دور الغراب المتهكّم على كلّ ما ومَن يشعل شمعة في ظلام المرحلة.. وكي نسمّي الأشياء بأسمائها، ليست مشكلة هؤلاء في طبيعة حديث زهراء، وخلافهم معها ليس مجرّد اختلاف حول وجهة نظرها.. يكمن الخلاف في نقطتين أساسيتين يمكن لأي متابع لمنصات التواصل أن يستخلصهما بموضوعية شديدة.
النقطة الأولى: الإيجابية المحرّمة بشرع الأميركي وأدواته.
حين كرّرت زهراء عبارة “نحنا ما مننهار” في عرض عفويّ لكلّ ما يمكن فعله في سبيل تحويل الضائقة إلى مجال يبدع فيه كلّ فرد في استخراج فرصة للتحمّل ولتخطي الأزمة. لم تكن تتوقّع أن تتحوّل عبارة بسيطة إلى مدعاة تنمّر وإساءات على مدى عام وأكثر. وإن ساق البعض هذه الإساءات لمجرّد كونه غارقًا في يأسه، فإن الغالبية التي تنمرّت وتهكّمت تدرك جيّدًا أن الإيجابية والصبر والعزم على التحمّل هي أسلحة لن يكون من السّهل التغلّب عليها، وبمكان ما هي أدوات تعزّز من تماسك البيئة التي يحاربها العالم كلّه. وهنا مكمن الخطر بالنسبة للعوكريين الذين يبذلون كلّ طاقتهم في سبيل ضرب البنية المجتمعية للمقاومة، ولعلّهم رأوا في حديث زهراء ما يعبّر عن حال الصبر واليقين بالنصر في كل المجالات، فأرادوا بثّ كل تفاهاتهم حول الحديث في سبيل توهينه، فعمدوا منذ سنة وأكثر إلى اختلاق الشائعات حول الصبية، ومنها أنّها “انهارت” وسافرت إلى افريقيا..
لم ينتبه هؤلاء مثلًا الى أن الحديث عن عدم الانهيار هو انعكاس ذهنية بنّاءة ونتاج عقل يجيد التعامل مع الأزمات وليس مجرّد شعارات ذات “طابع إيجابي” يمكن سماعها في جلسة يوغا أو في حديث نظري عن أثر الطاقة الإيجابية في ذهن الفرد وفي عمله. ذهبت إلى أقصى مراتب العمل التطوّعي حين اشتدت الأزمة المعيشية التي أجبرتها على إقفال مشروعها الخاص وقامت بتحويل الأزمة إلى فرصة تضع فيها كلّ طاقتها في خدمة المجتمع، بدءًا من السعي لتأمين كلّ ما تيسّر للعائلات المتضرّرة بشدّة من الأزمة وعبر بذل كلّ جهد إيجابي ممكن للربط بين الميسورين وذوي الحال المتعثّر وصولًا إلى الجهد الفائق في عملها كمتطوعة في الدفاع المدني وفي لجنة كورونا.. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنّ العبارة الشهيرة اقترنت بعمل حقيقي ومتواصل لا سيّما بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت. وهنا نتحدّث عن عمل طوعي جهادي إنساني يبدأ برفع الركام ولا ينتهي بكمّ القوّة والحب والاندفاع الذي يحتاجه الفرد للبحث بيديه وعينيه وقلبه بين الركام عن الجرحى وعن أشلاء شهداء الانفجار.
هذه الإيجابية المقترنة بالعمل وبالجهد تشكّل خطرًا حقيقيًا على دعاة “الهزيمة” ومنظّري الانهزامية. وقد يكون هذا السبب الأساسيّ لمن واجه مشكلة مع حديث زهراء ومع عزمها.
النقطة الثانية: العباءة
ببساطة، ترتدي زهراء العباءة الزينبية. بالنسبة للكثيرين ممّن اجتهدوا في التصويب عليها، هو سبب كافٍ لرفض كلّ ما قد تقوله. فالتنميط الذي تمّ العمل عليه خلال سنوات طوال، يقضي بأن تُقدم “ذات العباءة” بصورة الفتاة الضعيفة والتي ليس لديها ما تقول أو تفعل. محاولة صناعة وتكريس هذه الصورة النمطية لم تكن يومًا عملًا عبثيا، وهي صورة تستهدف المرأة المحجبة عمومًا والتي ترتدي العباءة بشكل خاص. في لبنان، ارتبطت العباءة ببيئة المقاومة، وصارت بشكل أو بآخر صورة عن هويّة المرأة الثقافية والسياسية والإجتماعية بالإضافة طبعًا إلى رمزيتها الدينية. ومن هنا، يصبح استمرار وضع زهراء، بشخصها وبمن تمثّل، في دائرة التنمّر المستمرّ والإصرار على الإساءة المعنوية إنّما هو انعكاس رفض هؤلاء لعباءة زهراء، لهويتها ولثقافتها ولانتمائها إلى البيئة التي لن تُقتل ولن تنهار. وبالتالي، يمكن القول لو إن عبارة “ما مننهار” صدرت عن أيّ جهة أو فرد من خارج هذه البيئة، ما كانت ستثير هذه الضجة البشعة الحافلة بالتفاهة والتي لا تعكس سوى مساوىء أصحابها ومشاكلهم وتحوّلهم إلى أدوات تستهدف المقاومة بكلّ أدبياتها وخصوصياتها وأبعادها الثقافية والمجتمعية.
منذ عام أو أكثر بقليل، قالت صبية تدعى زهراء قبيسي كلمات آمنت بها.. وخلال عام أو أكثر بقليل، حوّلت الصبية الكلمات إلى فعل ذي قيمة اجتماعية لم ينحصر داخل بيئتها وفي مجالات متعدّدة. وهنا لا ننحدث عن زهراء كحالة فردية بل كنموذج ينشط منه المئات من الشبان والشابات الذين قرروا ألا تهزمهم الأزمة، وأن يحولوها إلى فرصة.. عن مئات مثل زهراء أضاؤوا قلوبهم شمعات ليخفّفوا من ثقل الظلمة، فيما وقف آخرون يلعنون الظلام مرّة، وفي كلّ المرات يتهكمون على مَن يضيئون الشموع.
ليلى عماشا