تتناقص أصناف السلع في “السوبرماركت” بوتيرة متسارعة. الرفوف التي كانت تعاد تعبئتها في اللحظة ذاتها، أصبح قسم كبير منها فارغاً. فقدان العملة الوطنية قيمتها الشرائية بشكل يومي جعل الاحتفاظ بها عبئاً على المواطنين، ودفعهم إلى استبدال كل ما يملكونه من الليرة اللبنانية بسلع قابلة للتخزين. متاجر المواد الغذائية اصبحت تشبه رواية آغاتا كريستي “واختفى كل شيء”، حيث يُفقد منتج جديد مع كل اشراقة شمس.
المشهد اليومي، “يشبه حلبة السباق بين المستهلكين وسعر صرف الدولار في السوق السوداء”، بحسب أحد مدراء التعاونيات الاستهلاكية. “يجردون السلع، و”يقشّون” كل ما لا يزال ثمنه على أساس سعر صرف الاسبوع الفائت. فمحرك الشراء لم يعد الحاجة الآنية أو حتى المستقبلية للمنتجات بل السعر. فاذا كان سعر السلعة منخفضاً بالمقارنة مع بقية المؤسسات، أو إذا كانت التوقعات تشير إلى ارتفاعه، يُقدمون على شرائها بكميات كبيرة. ومع تراجع قدرة المستوردين على تلبيتنا، نضطر إلى ترك رفوفنا فارغة”.
تسارع الدورة الاستهلاكية
خوف المواطنين من ارتفاع الاسعار وفقدان المنتجات، وتحول عمليات الشراء من الاستهلاكية الى التخزينية، يسرّع الازمة. “فالمؤسسات التي تبيع بضائعها على أساس سعر الصرف الآني، ستعجز عن اعادة تأمين الكمية نفسها بحسب سعر الصرف المستقبلي”، يقول نقيب أصحاب السوبرماركت نبيل فهد. و”هذا ما ينسحب أيضاً على المستوردين. فهم لا يعجزون عن تأمين الدولار بسعر المنصة على اساس 3800 ليرة مقابل الدولار فحسب، بل يواجهون صعوبة في الحصول على الدولار من السوق السوداء على سعر 9500 ليرة”.
التسارع غير المسبوق في الدورة الاستهلاكية، يدفع إلى نفاد البضائع واضطرار التجار إلى اعادة شرائها بأسعار مرتفعة. وهكذا تكون الاسواق قد دخلت بدوامة من تزايد الاسعار، لن تتوقف إلا مع العجز عن الاستيراد. وهذا ما بدأ اصحاب ومدراء السوبرماركت بملاحظته من خلال اختفاء كل ما هو مستورد من حبوب وزيوت ومعلبات. أما تعويض النقص فهو رهن بقدرات المتاجر التخزينية، والتي لا تكفي بأحسن السيناريوات اسبوعين أو ثلاثة. فهل تنفجر الازمة خلال الاشهر القليلة القادمة؟ديمومة الدعم مهدّدة
أوساط مستوردي المواد الغذائية تعوّل على السلة الغذائية الأولى المكونة من 30 صنفاً والسلة الثانية الأوسع، التي يعمل عليها كل من مصرف لبنان ووزارة الاقتصاد من أجل استمرار تزويد الاسواق بأصناف السلع والمنتجات المختلفة وبأسعار مقبولة. “إنما المشكلة التي تقلقنا تتلخص في أمرين: الميزانية المرصودة، وديمومتها”، يقول نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي.
الأجواء الضبابية التي تخيّم على ملف الدعم، وطلب صندوق النقد الدولي الصريح رفع الدعم عن كل السلع والمنتجات كشرط أساسي لاستكمال المفاوضات مع لبنان، أمران لا يشجعان تجار المواد المدعومة على الاستيراد. فعملية الاستيراد تتطلب ثلاثة أشهر بالحد الادنى. بمعنى ان الطلبية التي ترفع اليوم إلى الخارج لن تصل قبل منتصف شهر تشرين الأول. ولتاريخه لا أحد يضمن ان تكون آلية الدعم ما زالت مستمرة، وأن يكون دولار الاستيراد متوفراً أو حتى مصرف لبنان بحد ذاته لا يزال موجوداً!
“ما يهمنا كمستوردين هو تأمين الدولار ولو بالحد الادنى حتى نستطيع تنظيم الطلبيات. ونحن نقبل بتوفير كميات أقل من الدولار شرط ان تتسم بالاستمرارية والثبات”، يقول بحصلي. “أما تركُنا في هذا الضياع والتخبط فهو أمر غير مقبول. فالمواطن العادي لا يستطيع الحصول على 200 دولار من السوق، فكيف بالتاجر الذي يريد 200 ألف دولار بدل شحنة رز أو خلافه؟”.
هذا الواقع يعيدنا الى السؤال الذي بدأ يطرح بقوة عما “إذا سيكون هناك طعام يتم توزيعه” في حلول نهاية العام. فمن الناحية الاولى سيدفع فقدان الدولار إلى وقف الاستيراد. وسيعجز أكثر من 70 في المئة من المواطنين عن الحصول على طعام كاف من الناحية الثانية. وهو ما يهدد بحسب تحذيرات اجنبية من مجاعة تعود بنا إلى العام 1914.
المجاعة مستبعدة
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يستبعد امكانية حصول مجاعة في لبنان. “قد نحرم من تناول العديد من الاصناف ونفقد القدرة على شراء المنتجات المستوردة وينخفض مستوى معيشتنا، لكننا بالتأكيد لن نموت من الجوع رغم كل الصعاب والتحديات”. شمس الدين ينطلق من مقاربة ان “ظروف لبنان مغايرة عن الحقبة السابقة. وهو ليس معرّضاً للحصار كما حصل في العام 1914 وهناك انتاج محلي زراعي من الألبان والأجبان والخضروات يكفي اللبنانيين”.
هذا التحليل المتفائل نسبياً يصطدم بفشل كل الاجراءات التي تتخذ وعجزها عن وضع حد لانهيار سعر الصرف، والتخفيف من الآثار السلبية للتضخم وفقدان القدرة الشرائية لليرة. وعليه فان استمرار ارتفاع سعر الدولار سيدفع نحو مزيد من المآسي على كل المستويات. وبحسب آخر الارقام فان نسبة الفقر في لبنان بلغت 55 في المئة، منهم حوالى مليون شخص لا يسمح لهم دخلهم بتوفير الغذاء الصحي والسليم. هذه النسب التي لن تتغير بحسب “الدولية للمعلويات” قبل شهرين أو ثلاثة، تبقى في النهاية رهناً بدرجة فقدان فرص العمل وارتفاع الاسعار. إذ ان زيادة عدد العاطلين عن العامل من 430 ألفاً إلى حدود المليون كما يتوقع، سترفع معدلات الفقر إلى أكثر من 60 في المئة.
– نداء الوطن