بعد حُكم المصرف، حلّ زمن حُكم الصرّاف. يوم أمس، أصدرت نقابة الصرافين تعميماً حددت فيه للبنانيين «مصروفهم» الشهري: رواتب العاملين الأجانب في المنازل، عدد الرحلات المسموح بها إلى خارج البلاد، القسط الجامعي للطالب في الخارج، إيجار المسكن، الدفعة الشهرية من ثمن المنزل… بتعميم واحد، وضعت نقابة الصرافين نفسها مكان مجلس النواب والحكومة والقضاء ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف
لم يكن ينقص لبنان بعد الذلّ الذي فرضته المصارف وجمعيتها، والمصرف المركزي وحاكمه، والحكومة ومجلس النواب، سوى أن «يبلّ» الصرافون أيديهم في سكان هذا البلد. بات يمكن، منذ اليوم، الحديث عن سلطة جديدة تجمع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وتقوم بمهام لجنة الرقابة على المصارف، عبر اصدار «فرمان» يحدّد للبناني عدد سفراته، والمبلغ المسموح باستخدامه للقسط الجامعي خارج لبنان، وإيجار المسكن، والحدّ الأقصى لقيمة القرض السكني. هكذا نصّب الصرافون أنفسهم قيّمين على الشعب والحكام الأعلى مرتبة في الدولة اللبنانية، فشرعوا لأنفسهم، أو بالأحرى شرّع حاكم مصرف لبنان لهم، فرض فتاوى على الناس عبر منح أنفسهم صلاحيات استثنائية يفترض أن تكون من مهام المصرف المركزي نفسه والحكومة. الا أن ذلك ليس مستغربا في غياب السلطات جميعها، وانصرافها عن لعب دورها الحقيقي في التشريع واعداد برامج مالية – اقتصادية – اجتماعية لتخفيف وطأة الانهيار، باختلاق أزمات جديدة. فكان أن عززت، بعلمها أو بدونه، مصالح التجار ورأس المال – وليس اقتراح وزير الاقتصاد راوول نعمة برفع الدعم عن المازوت والبنزين والخبز الا في هذا الاطار – على حساب مصلحة الفقير والعامل وأصحاب الودائع الصغيرة. أما حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، المؤتمن على السياسة النقدية والاستقرار الاقتصادي، فيمعن في المساهمة بتسريع الانهيار الشامل، تارة عبر فلت سعر الدولار، وطوراً عبر تعزيز خلق سوق سوداء موازية، ليستغني أخيرا عن صلاحياته ويضعها في عهدة نقابة الصرافين. ويوم أمس، قرر الحاكم التفرغ لزيارة السفير السعودي، وليد البخاري، مصطحبا الى اللقاء الرسمي نائبه السابق محمد البعاصيري!
التعميم رقم 4 الصادر عن نقابة الصيارفة أمس لبيع الدولار بالسعر الذي تحدده النقابة يومياً، حمل 6 عناوين:
1- تحديد راتب العمال الأجانب بـ300 دولار.
2- تحديد سعر تذكرة السفر بألف دولار كحد أقصى لمرة واحدة سنويا.
3- قسط الجامعة خارج لبنان يبلغ 2500 دولار.
4- 1000 دولار شهريا لتسديد قسط منزل في لبنان.
5- 500 دولار شهريا كحدّ أقصى لتسديد قسط دين بالدولار في لبنان.
6- 1000 دولار شهرياً لتسديد إيجار سكن الطالب في الخارج.
خطورة هذا التعميم تكمن في تواطؤ كل من نقابة الصيارفة مع جمعية المصارف والمطورين العقاريين والحلول محل القضاء. اذ يقفز في البندين رقم ٤ و ٥ فوق دعوات القضاة والحقوقيين والنواب انفسهم بوجوب معالجة مشكلة العقود والقروض والديون المنظمة بالدولار وتحديد اسس تسديدها وسعر الصرف الذي تحتسب على اساسه. ويُصدر التعميم حكما مبرما باستحقاقها بالدولار الاميركي من دون تمييز بين القروض المصرفية او سندات الدين المتوجبة لصالح المصارف والمؤسسات المالية وكونتوارات التسليف. من جهة اخرى، يخفي التعميم تحايلا على مضمون اقتراح ومشروع قانون الكابيتال كونترول الذي سقط في مجلس النواب من باب تسهيل جريمة المصارف في الاستيلاء على اموال المودعين بالدولار، عبر اقتباس نفس النص من اقتراح القانون الذي ينظم التحويلات المصرفية للطلاب وللسكن في الخارج. لكنه في المقابل أيضا، يدرج مضمونا غير قابل للتطبيق لجهة تذاكر السفر وتقييد حق التنقل المكفول دستوريا: فمن المعلوم ان أحد شروط الاستحصال على الفيزا الى معظم الدول يكون بإبراز تذكرة سفر صالحة، بينما يأتي تعميم نقابة الصرافين لينص على ابراز الفيزا الصالحة كشرط للحصول على ثمن تذكرة السفر!
واللافت أن نقابة الصرافين تسلّحت بصلاحيات تشريعية استثنائية، رغم اسقاط اتفاق الطائف ما يسمى بالمراسيم الاشتراعية، وهي صلاحية الحكومة بالتشريع بناء على تفويض البرلمان. ورغم رفض مجلس النواب وقبله مجلس الوزراء فرض الكابيتال كونترول بحجة انه من صلاحية المصرف المركزي… الا ان نقابة الصرافين الخارج نقيبها للتو من مركز توقيفه، حلّت مكان البرلمان والحكومة، ونالت ما لم تنله الحكومة من صلاحيات استثنائية، وما لم يمارسه مصرف لبنان من خلال فرض قيود على حركة الاموال في الداخل والخارج. كما خصّت نفسها بصلاحية تشريع السياسات الغذائية والاقتصادية والاجتماعية. هكذا باتت التعيينات المالية بكلفتها المالية والمعنوية والسياسية الباهظة لزوم ما لا يلزم، وكذلك كل الحكومة.
في معرض آخر، يبدو مستغربا تخلي مصرف لبنان عن دوره الذي نصت عليه المادة 70 من قانون النقد والتسليف. فمهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين اساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم، وتتضمن تلك المادة بشكل خاص ما يلي: «المحافظة على سلامة النقد اللبناني. المحافظة على الاستقرار الاقتصادي. المحافظة على سلامة اوضاع النظام المصرفي». كذلك نصت المادة 72 من القانون نفسه على أن «للمصرف (المركزي) ان يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الاسعار والمالية العامة وعلى النمو الاقتصادي بصورة عامة. يُطلع المصرف (المركزي) الحكومة على الامور التي يعتبرها مضرة بالاقتصاد وبالنقد. ويؤمن علاقات الحكومة بالمؤسسات المالية الدولية. تستشير الحكومة المصرف (المركزي) في القضايا المتعلقة بالنقد وتدعو حاكم المصرف للاشتراك في مذاكراتها حول هذه القضايا». في مقابل هذه النصوص، يظهر من تعميم نقابة الصرافين أمس أن مصرف لبنان قد فوّض صلاحياته للنقابة، عبر:
1- استبدال اولوية سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وسلامة اوضاع النظام المصرفي – التي تتحقّق من خلال تنظيم عمل مؤسسات الصرافة وتقييده – بأولوية تأمين استمرارية عمل مؤسسات الصرافة والحفاظ على هامش ربحها.
2- إيلاء نقابة الصرافين دور تقديم المشورة في القضايا المتعلقة بالنقد واستبدال ما اصطُلِح على تسميته بأفضل حاكم بنك مركزي بنقابة الصرافين.
يجري ذلك وسط غياب دور لجنة الرقابة على المصارف. فقد نصت المادة ٩ من قانون تنظيم مهنة الصرافة في لبنان (القانون رقم 42 تاريخ 21/11/1987) على انه: «يُعهَد بالرقابة على مؤسسات الصرافة الى لجنة الرقابة على المصارف ولا تخضع سجلات وقيود ومحاسبة مؤسسات الصرافة لاحكام قانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3 ايلول 1956 ولا الى احكام المادة 151 من قانون النقد والتسليف».
تعميم نقابة الصرافين حكمٌ مبرم باستحقاق القروض بالدولار الأميركي
وبالتالي، فإن لجنة الرقابة على المصارف هي المعنية بإصدار التعاميم وتحديد أصول تبادل القيم من قبل مؤسسات الصرافة والرقابة على عملها. غياب او هروب لجنة الرقابة ذات التعويضات السخية ترك المجال مفتوحاً امام نقابة الصرافين للحلول محلها واصدار التعاميم، وتعميم الفوضى بالسوق النقدية التي انسحبت على العلاقات التجارية والسوق العقاري.
بموازاة الفوضى المالية، تمسك وزير الاقتصاد باقتراحه الرامي إلى حصر دعم مصرف لبنان للمازوت والبنزين والقمح بفئة معينة من المواطنين من دون أي آلية واضحة، وانكبّ أمس على اعادة تسويق أفكاره «البرّاقة» بتشجيع المواطنين على استخدام وسائل النقل العام. اذ يبدو أن أحدا لم يخبر نعمة بأن لا باصات ولا قطار ولا مترو في لبنان، وأن السيارات الكهربائية التي يوصي بها تحتاج لكهرباء كي تشحن في بلد تخيم العتمة عليه ليلا ونهارا. اقتراح نعمة، استدعى ردة فعل قاسية من عضو المكتب السياسي في حزب الله غالب ابو زينب الذي غرد على تويتر قائلا: «هرطقة وزير الاقتصاد نمط تفكير موجود في الحكومة يريد اختزال الوقت وتحميل المواطنين الثمن.
تمسك وزير الاقتصاد باقتراح رفع الدعم عن المحروقات والخبز
الوزير وأمثاله لا يعرفون وجع الفقراء ومعاناتهم، هم ارقام تجمع وتطرح، كأرباح وخسائر صافية. حلوله الخاطئة وقراراته تخدم تجار الهيكل لا المجتمع. اعتمدوا علاجات تحمي الشعب ولا تسحقه». كذلك أصدر رئيس اتحادات ونقابات قطاع النقل البري في لبنان بسام طليس بيانا حذر فيه «الحكومة من التهور والانزلاق إلى ثورة الرغيف، إلا إذا كان لدى بعض من فيها نية استعجال الاضطراب الشامل في لبنان، فتعقلوا وتصرفوا بمسؤولية قبل فوات الأوان». بدوره حذر رئيس جمعية المزارعين أنطوان الحويك الحكومة من «المس بدعم المحروقات والخبز تحت اي صيغة»، مهددا «باطلاق ثورة الفلاحين، عند اي تغيير بالوضع القائم»، ومؤكدا ان «المزارعين ليسوا شحادين ولا يتوسلون المساعدة، وممنوع المس بكرامتهم، فهذه السلطة الفاسدة التي امعنت بافقار القطاع الزراعي، ستحاسب وسيتم وضعها عند حدها».
على مقلب آخر، نفى رئيس الجمهورية ميشال عون ان يكون «هدف انعقاد طاولة الحوار العودة الى حكومة وفاق وطني»، مشيرا الى «أن النظام التوافقي يفتقد الى الديموقراطية في ظل غياب ما يسمى بالاقلية والأكثرية». فيما حسم رؤساء الحكومة السابقون قرارهم بعدم المشاركة في اللقاء، وقال رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة عقب اجتماع الرؤساء أن «رفض المشاركة هو رسالة اعتراض صريح على عدم قدرة هذه السلطة مجتمعة على ابتكار الحلول لانقاذ البلاد».