خرج الناس من حجرهم، عادوا إلى مُزاولة حياتهم كالمعتاد، لم يعد “كوفيد-19” يُقلق راحتهم بقدر ما يقلقهم إهتراء الوضع المعيشي. يشعر الناس بالغبن، بالخوف، كل شيء حولهم تغيّر. بعضهم لم يُبالِ بالأزمة المستفحلة، مارس رياضة المشي في الطريق، عبَر قرب أكوام النفايات وكأنه يمرّ في جبال الألب، حتى الرائحة المتعفّنة لم تؤثر فيهم، تصالحوا مع كل شيء حتى مع التخلّي عن النزهات. ما يُقلق الناس هذه الأيام تدهور عملتهم، فهي لم تعد تساوي شيئاً، لم يعد بمقدورهم حتى دفع فواتير الدولة المتراكمة، ومع ذلك يركض الناس في الطريق، يجهدون لتنحيف أجسادهم الممتلئة قهراً وفقراً، بعدما عجزوا عن محاربة الغلاء. يعبرون من قرب حقول التبغ، يتوقّفون لمشاهدة كفاح السيدات في قطاف الذهب الأخضر، توسّعت رقعة الأراضي الزراعية من جديد، دفعت “كورونا” كثراً الى العودة لزراعة التبغ مع ما تحمله من معاناة، فيما فضّل البعض زراعة الملوخية، وتشكّل المرأة العمود الفقري لكلتا الزراعتين.
لا تقلّ شتلة الملوخية أهمية عن شتلة التبغ، وإن كانت شتلة التبغ أكثر مرورة من غيرها، دفعت بأبناء الجنوب لتحمّل صبرها ومرِّها، لتجاوز محنتهم المعيشية على مرّ السنوات الماضية، بالرغم من أنهم لم يحظوا يوماً بتعبهم، بقوا مغبونين سواء في السعر الذي يُقدّم لهم كثمن الكيلو الذي لا يتجاوز الـ12 الف ليرة، أو في غياب الدعم اللازم لمواصلة كفاحهم في الحياة.
بالرغم من الصرخات المتتالية التي خرجت من بين المزارعين، على قلّتها طبعاً، فهؤلاء، يجهلون حقوقهم. معظم العاملين في الدخان هم من النسوة، ممن حرمتهن الحياة من العمل في وظائف الدولة أو أي وظيفة أخرى، وُلدن وترعرعن داخل حقول التبغ، لم يعرفن مهنة أخرى، حتى أنهن يجهلن أبسط حقوقهن، بقين على سجيّتهن، مغبونات الحقوق والواجبات، حتى النقابة لم تنصفهنّ، غلبت عليها الذكورية، أكثر من تغليب نفسها بالدفاع عن حقوق من يواجهن المعاناة الطويلة لتحصيل لقمة عيش، لا تقلّ بمرورتها عن شتلة التبغ…
لم تتخلّ أم علي عن شتلة التبغ، فبالرغم من مرورتها بقيت سندها، تواجه من خلالها صعوبات الحياة. في الحقول حيث شتلات التبغ المرّة، تنهمك أم علي في قطافها، فالموسم بدأ، تعمل “من الفجر للنجر”، تتحدّى “كورونا” والأزمة المعيشية بالعمل. لا تنفك تُردّد “نحن عمّال لا حقوق لنا، تلوم “نواباً إنتخبناهم ولم يعطونا حقوقنا، نُصفّق لهم، وهم لا يروننا”.
شريحة واسعة من المواطنين فضّلت شتلة الملوخية على شتلة التبغ، حلّت مكانها في الكثير من الحقول لسبب بسيط، فعملها لا يحتاح سوى لشهرين ونصف الشهر، أو لثلاثة أشهر على أبعد تقدير، خلافاً لزراعة التبغ الذي يتطلّب عمل حول كامل، ومصاريف كبيرة. يضطرّ رب الأسرة لأن يستدين ليؤمن مصاريف الزراعة التي لم تشهد تطوراً على مرّ السنوات، لم تلحظ إدارة الريجي يوماً زيادة في سعر الكيلو الذي حافظ على الـ15 الف ليرة، بالرغم من أنها تبيعه بأسعار مضاعفة جداً، أي أنها تستغلّ تعب المزارعين لتحقيق أرباح طائلة، وفق أحد المزارعين، فيما لا يطال من يشقى ويتعب سوى الفتات. هذا ما دفع بكثيرين الى التخلّي عن تلك الزراعة واستبدالها بالملوخية التي جاوز سعرها الـ35 الف ليرة لبنانية، وعملها ليس صعباً مُقارنة بعمل التبغ الذي يتطلّب اكثر من 14 ساعة يومياً، تبدأ من ساعات الفجر الأولى وتستمرّ حتى بُعيد الظهر، مع ما يتطلّبه من تعب وجهد كبيرين، وبالرغم من ذلك لم تحظَ العاملات في الذهب الأخضر على أبسط حقوقهنّ، ما زلن يُكافحن بلا مُعيل قانوني، ما دفع بمعظمهن للسؤال عن حقوقهن المسروقة منذ زمن، ولولاهن لما بقيت الزراعة صامدة طيلة العقود الماضية، ومع ذلك لم تخصص الدولة لهنّ، أو الريجي، أي حقوق، بل تعتمد نظام السرقة الممنهجة عبر خفض سعر كيلو التبغ بدلاً من رفعه، مُستغلّة صمتهن وعدم مطالبتهن يوماً بحقوقهن، وأكثر، مستغلة حاجتهن للزراعة في زمن الضائقة المعيشية التي تواجههن، وإضطرار كثيرات لمضاعفة حجم الأراضي الزراعية، ليتمكنّ من تأمين متطلبات حياتهن.
المصدر: رمال جوني – نداء الوطن