فعلها الخضرجي سمير الجوني، ضبط أسعار الخضار والفاكهة، في وقت عجزت وزارة الإقتصاد عن تسطير محضر ضبط واحد.
عن سابق تصميم، قرّر خفض أسعار الخضار، أيقن باكراً أن سيناريو تلاعب التجّار بالأسعار ارتدَّ على الفقراء. قرّر خوض معركة كسر الأسعار مُنفرداً على قاعدة “من حق الفقير أن يعيش”. رسم بقراره سيناريو جديداً للمنافسة بين التجّار، لا يهتم للربح والخسارة، بقدر إهتمامه بتمكّن الفقراء من شراء خضار باتت صعبة المنال.
هنا الجوني، لا مكان لسياسة الغلاء بين أركان خضاره، هو “بيّ الفقير”، لطالما عُرف بمُساعدتهم، قرّر أن يلعب في ملعب الفقراء هذه المرّة، بحسبه “من حقّ الفقير أن يأكل”، ويُردّد “أبيع بأقلّ من الرأسمال كرمال عيون المتعففين”.
في محله في كفررمان يعمل مع أولاده، يحاول قدر المستطاع تقديم الدعم لمن سُدّت كل الأفق في وجههم، إنفرجت أسارير محمد من سياسة الرخص، فالتعجّب بدا واضحاً “معقول في رخص هيك بعز الأزمة”، لم يُصدّق كثيراً حقيقة أن “الخضار ببلاش”.
لم ينسَ الجوني وجه تلك السيدة التي أتته على حياء، تطلب بندورة بـ 500 ليرة لبنانية، ولا ذاك العجوز الذي جاء ليأخذ بعضاً من الخضار المهترئة، صور الناس ماثلة أمام عينيه، وهو الذي ما انفك يوماً يقف بقربهم، مشاهد دفعته ليضع سياسة جديدة في حركة البيع، عنوانها الفقراء.
سيناريو تجاري جديد يفتحه الجوني، يُثبت أن التجاّر هُم من يتلاعبون بالاسعار، وإلا كيف يمكنه بيع 4 كيلو خيار بألف ليرة لبنانية، فيما يباع الكيلو الواحد في محال أخرى بـ 2000 ليرة. يتحرّك الجوني من أرضية “إنسانية” بحتة، أعلنها صراحة “سأبيع بهذه الأسعار طيلة شهر رمضان”، مُثبّتاً الأسعار عند بورصة “الرخص”.
مما لا شك فيه أن الأسعار المُخفّضة تركت ارتياحاً عند الناس، وانزعاجاً عند باقي “الخضرجية”، أصابهم الأمر بنكسة في خضمّ معركتهم الشرسة لتحقيق الأرباح.
“سند المعتر”
سقط قرار الجوني كالصاعقة على الجميع، وهو الذي عرف عنه بأنه “بيّ الفقير”، ولطالما اعتمد سياسة “العطا قيمة”، يقيناً منه أن الناس يعيشون كارثة حقيقية وحقّهم علينا الوقوف بقربهم”.
عجقة ناس، إزدحام، تهافت على شراء الخضار بأنواعها المتعددة، تتسابق الأيدي لإلتقاطها. أثبت مشهد الإكتظاظ حاجة الناس للرخص في زمن غلب عليه الطمع والتلاعب بالأسعار، من لا يعشق الرخص، إنه “أبو رخوصة” يقول أبو علي الذي قصده من دير الزهراني، وفيما تعتبره أم يوسف “سند المعتر”، تؤكد فاطمة “أن الناس شبعوا غلاءً وإحتكاراً، الكل يشتري من هنا، وصل كيلو الخيار الى ٢٥٠ ليرة، فيما سجّل خارجاً 1500، يُردّد محمد حسين “قديش كنا بحاجة لهيك أسعار بهيك أزمة”، وتسمع آخر يؤكّد “نحن نأكل بعضنا، ونحن من نساعد بعضنا”. لا يُمكن لأحد التغاضي عن كلمته الشهيرة “العطا قيمة”، صار من المتعارف عليه بين ابناء القرى أنه “أرخص من غيره”، ويُمكن لأي كان شراء خضاره. يؤكد الجوني أنه لن يترك أحداً يستعطي كيلو بندورة أو حامض”.
بين الخضار والفاكهة تتنقّل الحاجة سعاد، إنفرجت أسارير السيدة الخمسينية بعدما تمكّنت من شراء خضار رمضان “برخص الفجل” وفق قولها “هلكونا التجار بالغلاء، لوين بدن يوصلونا”.
داخل مجتمع الخضار يتفرّع حيتان المال، يحتكرون السلع، يتلاعبون بالأسعار، يفرضون خوّة على الفقراء، هم الذين باتوا بلا معيل، في بلد تتناتشه المحاصصات والمحسوبيات، يبحث فيه المواطن عن الرخص، في زمن شريعة الغلاء، مع تصاعد سؤال: من الذي أوصل البلد الى حالة الشيخوخة المبكرة، من الذي وضع الفقراء على سكة الصراع غير المتكافئ؟
-نداء الوطن