لا أحد يدرك ثقل تلك الساعات بفيضاناتها وشلالاتها وبحيراتها سوى من وجد نفسه عالقًا وغارقًا في تلك البقعة الجغرافية المسمّاة “وطن”.
أمهات عاملات، طلاب مدارس، أطفال الحضانات، مرضى، مسنّون، لاهثون وراء لقمة العيش، كلّهم وجدوا أنفسهم عالقين في شباك دولة الفساد والمفسدين، أمضوا ساعات طويلة في “اثنين الفيضانات”، يجتازون تلك البرك التي تكوّنت على الطرقات والأنفاق، وقد حاصرتهم المياه وغمرت سياراتهم وباصات التلامذة، فسجنوا لساعات طويلة بعدما باتوا عاجزين عن العودة من حيث أتوا، بفعل الشلالات والمستنقعات التي أقفلت كلّ الطرقات والمنافذ. ومن بقيّ في منزله لم يسلم، بحيث اختلطت مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي واجتاحت عددًا من المنازل والمحال وخلّفت أضرارًا كبيرة.
وبدل أن يهبّ المعنيون لنجدة العالقين والمتضررين، راحوا يتقاذفون المسؤوليات، هذه المنطقة ليست من صلاحية وزارة الأشغال، وتلك الطريق ليست من ضمن عمل البلديات. أمّا الذريعة الغبية التي يستنسخونها مع كلّ شتوة “الأمطار فاقت التوقعات”، وجعلتهم يُفاجأون بالأمطار في كانون. أمّا البعض الآخر من كبار مسؤولي دولة اللادولة فلم يُفاجأ أو يحرّك ساكنًا، لأنّه غير مدرك لما يحصل في الأساس، ويقبع خلف الأسوار معزولًا عن الناس وهمومهم ومشاكلهم ومعاناتهم.
أكثر الأماكن نكبة في “الشتوة المفاجئة” كانت خلدة والناعمة وطريق المطار والأوزاعي التي يقطعها يوميًا الآف المواطنين من الجبل والجنوب والشويفات ومحيطها إلى أشغالهم في بيروت، وقد ذاقوا في تلك الساعات كلّ أشكال الذل وحرق الأعصاب، إلى أن ظهر وزير الأشغال في الحكومة المستقيلة من كلّ شيء حتى من تصريف الأعمال، ليقول “النص واضح نطاق عمل وزارة الاشغال منصوص عنه في القانون.. مطار بيروت ونفق المطار هو ضمن تلزيمات شركة “ميز” التي يلزمها مجلس الانماء والاعمار وتلتزم التنظيف بالنفقين”. وأضاف أنّ “هناك اعتمادات مالية بقيمة 13 مليار ليرة من أجل تنظيف المجاري على الطرقات والأوتوسترادات ما عدا المدن الكبرى”.
إذن طالما أنّ الأموال متوافرة من قصّر بالصيانة ؟ وأبعد من تبرير وزير الأشغال أو تقصير مجلس الإنماء والأعمار والبلديات وشركات الصيانة، ماذا سيفعل القضاء حيال مشاهد الذل على الطرقات؟ هل سيفتح تحقيقًا ويسير به إلى النهاية لتحديد هوية المقصرين ومعاقبتهم؟ أم سليتزم الصمت ليتساوى مع السلطة السياسية في فسادها وتقصيرها؟ أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس ؟ أينقصنا شياطين في هذا البلد ؟ متى سيأتي زمن يُحاسب فيه المهملون المفسدون كي لا يستمروا بفسادهم وتلزيماتهم وصفقاتهم التي ندفع ثمنها كل لحظة؟ أي رسالة فساد يرسلها مسؤولو لبنان إلى مجموعة الدعم الدولية التي ستجتمع في باريس محاولةً أنقاذنا من الإنهيار الشامل؟ بينما مسؤولو لبنان لا يسألون سوى عن مكاسبهم في التركيبة الوزارية ويوجّهون أنهار فسادهم لتجرف ما تبقى من أمل بغدٍ أفضل..
المصدر: لبنان 24