استجابة لمبادرات فردية، هبت بلديات جنوبية لـ«تلبية نداء الأرض»، مطلقة مشاريع للعودة إلى الزراعة في محاولة لاكتفاء شبه ذاتي، غذائياً. هبّة «أنا مقاوم، أنا مزارع»، أذكتها الأزمة الاقتصادية، وتنبّهت لها اتحادات البلديات المحسوبة على حزب الله، ساعية للتعويض عن غياب الدولة. الأمن الغذائي كان جزءاً من استراتيجية تكافل اجتماعي واقتصادي وتنموي أطلقت منذ تسع سنوات. محاولات تفضح تقصير الدولة.
بين تل النحاس وصف الهوا على طول الحدود الجنوبية، انتشرت التعاونيات والاستهلاكيات لتأكل الدكاكين. في البلدات التي لا يزال بساطها الأخضر أقوى من الاسمنت، يتقلص عدد المقيمين في هذه الفترة من السنة لتقتصر على المئات وأحياناً أقل. لكن «السوبر ماركت» التي كانت بضاعتها تكفي حاجة الآلاف، هي أيضاً تقلّصت أخيراً، ليس تماشياً مع حاجة السوق، وإنما بسبب «سياسة الحصار والتجويع والتركيع الأميركية والصهيونية لشعب المقاومة». هكذا يفسر صاحب إحدى التعاونيات في عيترون سبب فراغ الرفوف من البرغل التركي والأرز الإيطالي ومعلبات الخضر الفرنسية (…). هذه سياسة أميركا وإسرائيل، أم سياسة الدولة بتحرير السوق وضرب المنتج المحلي؟ يقرّ بأن معظم بضاعته مستوردة «بسبب قوة المنافسة وتحوّل المستهلك إلى المنتج الأوفر». يدرك بأنه في حال تقطّع السبل وانهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار، فإن إقفال محله يصبح حتمياً. ما البديل؟ «الحق على الدولة»، يقول سريعاً قبل أن يستطرد: «والحق علينا لأننا أقلعنا عن الزراعة وصناعة الخبز وتحضير المؤن».
لم تبلغ الثورة البلدات الجنوبية بقوة. لكن الحصار والإفلاس سيبلعها كسائر الأرياف. بمزيج من العقائد والرؤية الاقتصادية، استبق حسين عباس الأزمة وأطلق مبادرة «أنا مقاوم، أنا مزراع» التي تدعو أصحاب الأراضي، على اختلاف مساحاتها، إلى زراعتها وتربية المواشي والدواجن لتأمين حاجة الاستهلاك المحلي. ربط المبادرة بعوامل تحفيزية شملت تطوع شبان للمساعدة في تحضير الأرض والزراعة وتوفير عدة الزراعة. مبادرة وجدها البعض غير قابلة للتطبيق، فيما تلقفتها بلديات وحوّلتها إلى مشروع. عباس المقيم في البازورية، هو ابن حانين (قضاء بنت جبيل) التي محاها العدو الإسرائيلي عام 1976. وبعد تحرير عام 2000، عادت بيوت حانين ولم تعد عاداتها. معظم أبنائها هاجروا أو نزحوا بفعل الاحتلال والحرمان. تجمّدت الأرض قسراً لـ 24 عاماً. وعندما عاد جزء منها للحياة، زرع معظمه بالتبغ لأنه مدعوم من الدولة. كثر الناس وقلّت الكميات لدى القلّة المزارعة التي تزاحم الآخرون عليها للحصول على حصتهم من «المونة». مؤونة تصبح رأسمالاً نادراً في أوقات الشدة. في عدوان تموز 2006، روى كثير من المقاومين أن مونة البيوت القروية من خبز مرقوق إلى مرطبانات المربى واللبنة، ساعدتهم على الصمود. ذلك الرأسمال يريده رئيس بلدية عيناتا رياض فضل الله في كل بيت، رغم الصعوبات. الصيدلي أطلق مبادرة «خيراتنا بأرضنا» على صعيد بلدته لتشجيع الناس على زراعة أراضيهم. وبما أن عدداً كبيراً من الملاكين مسافر أو نازح، استحصل على موافقة بعضهم لتتولى البلدية زراعتها. الشتوة المرتقبة ستكون موعد زراعة 150 دونماً بالعدس والحمص والفول والذرة بإشراف وزارة الزراعة. يأمل فضل الله أن تتحول التجربة إلى عدوى تتنقل بين الأهالي، ولا سيما الأجيال الشابة التي أقلعت عن الزراعة.
في زمن المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، سدّت حنطة سهل حوران جوع أهالي جبل عامل. فيما سهل الحولة شكل الإسناد الخلفي للحبوب والخضر والأشجار المثمرة. معظم زراعات جبل عامل ارتكزت على التين والصبّار والزيتون. كثير منها اقتلعها أصحابها ليزرعوا مكانها التبغ المدعوم. «هات دعماً للقمح والحبوب لكي يزرعها الناس مجدداً»، يقول كمال فوعاني الذي يشكك بفعالية المبادرات التي «تنبهت الى أنه لا غنى عن الأرض». بلدته حولا، تمسكت بالزراعة كوسيلة عيش، أكثر من جاراتها. حوالى مئة عائلة تعتاش من زراعة التبغ والحبوب والخضر في أراضي حولا وخارجها. فيروز شريم تستأجر أراضي في ميس الجبل وسهل الخيام وشقرا. ليس بسبب ضيق المساحات في حولا، بل بسبب وعورة بعضها. «كل شبر في حولا مهما كان وعراً أو أرضه صخرية، كان يزرعه أجدادنا. كانوا يحرثونه بالمنكوش أو «السكّة» التي يجرّها ثور أو بغل أو حمار يستطيع الوصول إلى أضيق الزوايا. فيما اليوم الحراثة على «التراكتور» الذي لا يعمل سوى في أراض منبسطة، فيما استصلاح الأرض مكلف ولا يدخل ضمن ميزانية الدولة». ليس هذا سبب «بوران» الأرض أي تحوّلها إلى بور، وفق شريم. في السابق، كانت الزراعة اقتصاداً عائلياً لا تستدعي استئجار يد عاملة. في أسرتها، لا يعمل جيل السبعينيات والثمانينيات في الزراعة، إنما تحوّل بفعل العلم إلى مهن أخرى. كلفة اليد العاملة المرتفعة (السورية في معظم الأحيان)، يجبرها على تقليص المساحة المزروعة لخفض التكاليف. أزمة المياه في الصيف، أجبرت بدورها مريم مزرعاني على «خربطة» روزنامتها الزراعية. ما كان يزرع في أيام الصحو لتجفيفه وتخزينه في الشتاء، بات يزرع تحت المطر. هذا كله في كفة، وسعر البذار في كفة أخرى. في حولا، لا يزال كثر يحافظون على تقنية حفظ البذور من المحصول لزرعه في الموسم المقبل. سائر القرى باتت تعتمد على البذور المستوردة المهجنة التي لا تصلح لإعادة زرعها مرة أخرى. هذا عدا عن ارتفاع سعرها الذي تضاعف أخيراً. تربية المواشي ليست أقل كلفة لمن يرغب بالعودة إلى الجذور. يلفت فوعاني إلى أن علف الدجاج والأبقار مستورد. «تبن العدس أصبح أغلى من الدواء». وكما سائر اللبنانيين، ترهق المزارعين كلفة المحروقات. في السابق، كان الأجداد يجمعون الحطب اليابس من البراري ويشعلونه مع زبل البقر المجفف المخلوط بالشعير، للتدفئة. الآن، لا بديل من المازوت في ظل تشدّد وزارة الزراعة في حماية الأحراج من القطع.
آمال خليل – الاخبار