تراجع إيرادات الاتصالات في لبنان، واحد من الهواجس التي تُقلق القوى السياسية، التي تتعامل مع قطاع «الخلوي» بوصفه «منجم الضرائب». هي عاجزة عن وضع استراتيجية اقتصادية لانتشال البلد من أزمته، وترفض توسيع بيكار موارد الخزينة العامة. لذلك، يلجأ الرسميون إلى فرض المزيد من الأعباء على مُستخدمي الخلوي في لبنان، مُتناسين أنها «خدمة». تطبيق «الواتساب»، يُراد أن يكون الشيطان الجديد، والمسؤول عن تراجع الإيرادات، فيُطرح فرض رسمٍ على استخدامه، أو إيقافه، فيما الحقيقة مُغايرة لدعاية السلطة
الـ«واتساب» تطبيق عالمي للتراسل الفوري، يسمح بتبادل الرسائل القصيرة والصور والمكالمات… مجاناً. في لبنان بات «رمزاً»، لما هو «عدّو» للخزينة العامة. صدر الحُكم على التطبيق بأنّه مسؤولٌ عن تدني إيرادات قطاع الخلوي (تراجعت الاموال التي تحوّلها وزارة الاتصالات من إيرادات الخلوي إلى الخزينة من 1107 ملايين دولار عام 2011 إلى 772 مليون دولار عام 2018). هذه اللازمة، بات يُردّدها وزير الاتصالات، وعددٌ من المسؤولين في القطاع، «المُبَرمجين» على النظر إلى «الاتصالات» بوصفه باباً لتحصيل الضرائب، وليس «خدمة» يحقّ للمواطن الحصول عليها، بأسعارٍ تنافسية ونوعية جيدة. ففي 15 حزيران الماضي، قال وزير الاتصالات (رئيس الهيئات الاقتصادية)، محمد شقير لـ«النهار»، إنّ قطاع الاتصالات «لم يعد نفط لبنان… والحقّ على الواتساب»، مُتحدّياً جميع النواب إن لم يكونوا يستخدمونه في أسفارهم الخارجية، وحتى في لبنان. ورأى أنّه كان للاستثمارات التي ضُخّت، في العامين الماضيين، «لتحسين نوعية الشبكة، أثرها في زيادة استخدام الاتصالات عبر الواتساب». وفق هذه النظرية، وإذا كان الأمر عبارة عن حلقة مترابطة، يكون المسؤول عن تراجع إيرادات الاتصالات، هو التطور التكنولوجي الذي عادةً ما يستخدمه الرسميون أداةَ تباهٍ، «يبيعونها» للرأي العام. شقير، في المقابلة نفسها، أخبر عن تبوّء لبنان المرتبة الثالثة بين الدول العربية، والمرتبة 27 عالمياً، نسبةً إلى نوعية الجيل الرابع (4G).
تطبيق «الواتساب»، واحدٌ من التطبيقات (مثل سكايب، فايبر، بوتيم، فايسبوك كول، فايس تايم…) التي تستخدم نظام التخابر عبر الإنترنت – VoIP. مجانية الخدمات، جعلتها تحظى بشعبية لدى الناس في العالم أجمع، و«برّرت» مطالبة عدد من مشغلي شبكات الهاتف المحمول، والرسميين، بفرض رسمٍ عليها. لا يشذّ لبنان عن هذه القاعدة، خاصةً أنّ جزءاً رئيسياً من ميزانيته قائم على أرباح/ ضرائب قطاع الاتصالات. صحيحٌ أنّه لا يُمكن نكران أنّ انتقال نسبة من المشتركين إلى استخدام منصات التخابر عبر الإنترنت، عوضاً عن استعمال خدمة الاتصال الصوتي، يُعدّ «واحداً من أسباب» – وليس السبب الأوحد – تراجع إيرادات الخلوي، إلا أنّ ذلك يأتي:
أولاً، بسبب النظرة اللبنانية «الرجعية» لقطاع الاتصالات، واستمرار اعتماد الشركتين على إيرادات التخابر الصوتي «العادي» (الخلوي لا عبر الإنترنت)، فيما تطوّر القطاع عالمياً، وبات التركيز منصبّاً على الإيرادات الناتجة من البيانات (Data revenue)؛
وثانياً، كنتيجة للأسعار الباهظة التي تفرضها الدولة على المشتركين. «الواتساب»، هو عملياً، «مهرب» السكان في لبنان، الذين يُعانون من وضع اقتصادي صعب، للتوفير. وهم أساساً، لا يُفترض بهم أن يبقوا أسرى ضريبة جائرة تُفرض عليهم، بطريقة غير عادلة، فقط لأنّ الدولة غير قادرة على إيجاد موارد أخرى للخزينة العامة، يغنيها عن «ضرائب» قطاع الاتصالات؛
وثالثاً بسبب ارتفاع النفقات التشغيلية في شركتي الهاتف الخلوي، نتيجة ارتفاع عدد المشتركين من جهة، وبسبب القرار السياسي الذي جعل الإنفاق بيد وزير الاتصالات، ما حوّل أموال الخلوي (غير الخاضعة لقانون الموازنة العامة ولا لقانون المحاسبة العمومية ولا لرقابة ديوان المحاسبة ولا لقرار مجلس الوزراء) إلى اداة للإنفاق السياسي بيد وزراء الاتصالات.
النظرية «المُشيطنة» لتطبيق «الواتساب»، دون غيره من تطبيقات التخابر عبر الإنترنت، تستند إلى الأرقام الرسمية التي قدّمتها الشركتان المُشغلتان لقطاع الخلوي، «ألفا» و«تاتش»، إلى لجنة الاتصالات النيابية. المستندات أظهرت تراجعاً في إيرادات الاتصال المُحققة، بدأ منذ الـ2011 – 2012، لتتأثر معها سلباً مجمل إيرادات القطاع. عند شركة «تاتش»، انقسمت إيرادات الـ2018، بين 41% كعائدات بيانات (الإنترنت)، و38% عائدات التخابر (الاتصالات «العادية» والرسائل النصية). أما لدى «ألفا»، فبلغت إيرادات التخابر 28.86% مقابل 35.95% لإيرادات البيانات. انطلاقاً من هذه الأرقام، حاول شقير تمرير إلغاء الدقائق الستين المجانية التي يحصل عليها مشتركو الخطوط المُلحقة الدفع، قبل أن يتراجع عنها. ثمّ يبدأ التسويق لفرض رسمٍ على «الواتساب». في الوقت نفسه، وُضعت على طاولة وزير الاتصالات، اقتراحات مصدرها عاملون في القطاع، هي عبارة عن «إجراءات تقشفية» عدّة، تطاول كلّ «الامتيازات» الخجولة الممنوحة للمشتركين: «التشويش» على شبكة الاتصالات لتحقيق تردّي نوعية الإنترنت بشكل مُتعمد لعرقلة التخابر عبره، إلغاء التعرفة المنخفضة لخارج أوقات الذروة التي بدأ العمل بها في الـ2012، إعادة سعر شراء الخط الجديد من 3$ إلى 25$، إلغاء عدد من الحزمات التي أسهمت في خفض الإيرادات…
العاملون في قطاع الاتصالات «الخدماتي» (وليس الضريبي)، يدورون في حلقة مفرغة، أساسها «تشليح» الناس أموالاً إضافية، من دون دراسة الجدوى الاقتصادية، ومن دون أن يمسّوا بصلب الموضوع: مطالبة الوزارة بخفض الأسعار، ووضع استراتيجية جديدة للقطاع. دراسة «تاتش» المقدمة للجنة الاتصالات النيابية قبل أسابيع، تؤكد ذلك. فهي تُظهر أنّ الإجراءات المقترحة لمواجهة خفض الإيرادات، لن تتخطى الـ58 مليون دولار، من بينها 20 مليون دولار ستتحقق في حال فرض رسم على «الواتساب»… إن سلّمنا جدلاً أنّ وتيرة استخدام التطبيق لن تنخفض بعد فرض رسم عليه. يغيب عن بال المعنيين في «الاتصالات»، أنّ المشتركين يستخدمون «الواتساب» لأنّه مجاني، فمن يضمن لـ«حزب الضرائب» أنّ الناس لن يلجأون إلى تطبيقات مجانية أخرى، إذا صار «الواتساب» غير مجاني، وبالتالي تفشل خطتهم؟
أسبابٌ عدّة تؤثر في انخفاض عائدات الاتصالات، بحسب خبراء في القطاع: الوضع الاقتصادي السيّئ في البلد، انخفاض الناتج المحلي للفرد، النموذج العملي المعتمد الذي يُركز على العائدات من التخابر والرسائل القصيرة. في الولايات المتحدة الأميركية، وعددٍ من البلدان الأوروبية، حيث لا تُستخدم «الاتصالات» مصدراً رئيسياً للضريبة، عرف مشغلو الهاتف كيف يتكيفون مع التغييرات في عالم الاتصالات، لتعويض الإيرادات التي خسروها نتيجة التخابر عبر الانترنت. عمدوا إلى تحديث بنيتهم التحتية، خفض التكاليف، وإطلاق حُزم أساسها «بيع الداتا» (الإنترنت) للمشتركين، محوّلين في الوقت نفسه خدمة الـ«Over the Top – OTT» (خدمة بثّ تُقدّم المحتوى البصري والسمعي («التلفزيوني») للمشاهدين عبر الإنترنت، متجاوزاً منصات البث الإذاعي والتلفزيوني التقليدية)، إلى واحد من مصادر الإيرادات الأساسية. إضافةً إلى الاستثمار في الـ«Voice Over LTE»، أي التخابر عبر الجيل الرابع. في لبنان، الـLTE تعني الـ4G، لكن خدمة الصوت للجيل الرابع، يجري تأمينها عبر الجيلَين الثاني أو الثالث. لذلك، يُعمل الآن على وضع شبكة تُتيح الاتصال عبر الـLTE، وهذا بحاجة إلى تفعيل شبكة «الفايبر أوبتيك». دخول الأخيرة حيّز التنفيذ، «ممكن أن نستخدمه لتوفير خدمات إضافية للناس، وبيع الإنترنت بتقنيات مرتفعة. المشكلة أنّ الأوصياء على القطاع في لبنان، لم يُدركوا بعد أهمية الداتا، ولم يُخففوا تركيزهم على تحصيل الأموال من التخابر»، يقول خبراء في الاتصالات. ويُقدّم هؤلاء نماذج أوروبية وأميركية، عُدَّت «ناجحة»، وهي إتاحة حُزم للمشتركين، «بأسعار ترتفع كلّما زادت الخدمات، قائمة على تخابر مجاني وعدد رسائل نصية قصيرة غير محدود، مقابل بيع البيانات (الإنترنت)». أدّى ذلك إلى «تشجيع الناس على استخدام التخابر العادي، وتخفيف استخدام الواتساب، الذي أصبح ضمن حزمة البيانات المدفوعة».
يُقرّ أحد أصحاب القرار في قطاع الخلوي بأنّ «المشكلة تكمن في الأسعار المرتفعة. يجب أن نُعالج هذه الإشكالية، ونُقدّم بدائل للمشتركين، لنُشجعهم على التخلي عن تطبيقات الاتصال عبر الإنترنت. واحد من الحلول، إلغاء كلّ العروض التي تُقدمها ألفا وتاتش، وتقديم حُزم جديدة». بالإضافة إلى حسم أمر أساسي: «ماذا نريد من هذا القطاع؟ جباية الضرائب؟ سيؤدي ذلك إلى استمرار انخفاض الإيرادات سنوياً. نحن بحاجة إلى من يضع خطة بعيدة المدى، ويملك جرأة خفض الأسعار، قبل أن تُعاود الأرباح الارتفاع من جديد، بناءً على استراتيجية متكاملة».
ما الخيارات المتاحة لوقف تراجع الإيرادات؟
ما الإجراءات التي بالإمكان اتخاذها، لإيقاف التراجع في إيرادات الاتصالات؟ السؤال طرحته وأجابت عنه «ألفا»، في التقرير الذي أرسلته إلى لجنة الاتصالات النيابية قبل أسابيع. الشركة المُشغلة لـ«mic 1»، حدّدت ثلاثة خيارات:
1- أن لا نُقدم على أي إجراء.
2- القيام بإجراءات قصيرة المدى، تولّد استياءً كبيراً في السوق: إيقاف خدمات التخابر عبر الإنترنت، أو فرض تسعيرات عليها، مع تقديم حزمات جديدة (مدفوعة طبعاً) خاصة بوسائل التواصل الاجتماعي.
3- تقديم إجراءات استراتيجية للقطاع: خطوات جريئة لإعادة ترشيد الأسعار وجعلها «منطقية»، من خلال تقديم حزم موحدة للعملاء، تهدف إلى إعادة اجتذابهم. ومن الأمثلة التي تُقدّمها «ألفا»، الاستفادة من التطور الرقمي، وتقديم حُزم مُشجعة للمستخدمين، تُركز على «الترفيه المنزلي» والخدمات الرقمية.
ويُشير تقرير «ألفا» إلى أن اعتماد الخيار الثاني لن «يُنقذ» تدهور الإيرادات، وستستمر في الانحدار حتى عام 2025، بينما الخيار الثالث يُعتبر الحلّ الوحيد للربح، رغم أنّ تطبيقه سيؤدي إلى خسارة فورية بقيمة تتراوح بين 170 و180 مليون دولار، ولكنّه سيُحرك السوق اقتصادياً، ويخلق الأرباح تدريجياً، وصولاً إلى تحقيق النمو في الـ2025.
المصدر : ليا القزي – الأخبار