المصدر : أورنيلا عنتر | المدن
منذ حوالى خمسة عشر عاماً تقريبًا، يسجّل لبنان، سنة بعد سنة، ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المصابين بالسرطان. لا حاجة لأرقام منظمة الصحة العالمية، ولا لأرقام وزارة الصحّة اللبنانية، لملاحظة هذا الارتفاع. فالواقع المعيش أكثر دلالة على ذلك من الأرقام والدراسات. فمرض السرطان أصبح جزءًا من يوميات اللبنانيين وهمومهم. إذ يندر اللبنانيّ الذي يقول إن ليس من مصاب بالسرطان في دائرة معارفه، بدءًا بالعائلة الصغيرة إلى الموسعة، ومرورًا بالأصدقاء والزملاء في العمل.
أسئلة المقربين
إلى جانب الهواجس التي ترافق المقرّبين من المريض حول احتمالات شفائه الكامل، أوالجزئي، أو عدمه، غالبًا ما يصطدم أولئك المقربون بأسئلة ومشكلات من نوع آخر: هل نخبر المريض بكل ما نعرفه عن حالته؟ هل ندعه يتأفف ويغضب ويبكي، أم ندفعه في اتجاه الأمل والمجابهة بلا كلل ولا ملل؟ هل ندعه يأمل ويحلم بمستقبل بعيد أو قريب عندما نعرف أن أيّامه معدودة؟ هل نخبر الأطفال أنّ أمهاتهم أو آباءهم أو خالتهم المفضّلة مصابون بمرض السرطان، أم نتركهم في عوالمهم بعيداً عن هموم الكبار؟
الأسئلة كثيرة والإجابات أكثر.
وسط هذه الورطة تغيب هذه المسألة عن ذهن كثيرين من أعضاء الطاقم الطبي الذي يرافق المصاب بالسرطان، ومنهم الممرضون، وقد يكون هؤلاء على احتكاك أكبر مع المريض. هنا يبرز دور المرافق الذي لا يقتصر على المرشد الروحي أو المعالج النفسي، إنما ينسحب على الممرض وأفراد الطاقم الطبي المعالج.
التشارك في الخبز
لكن ماهي المرافقة؟ تعود جذور كلمة “مرافقة” في اللغة الفرنسية إلى اللاتينية، وتعني حرفيّا: مشاركة الآخر في الخبز. وفي محاضرة نظمتها الجامعة الأنطونية في مجدليا عن أخلاقيات العناية بمرضى السرطان قال الأستاذ الجامعي الأب شربل شلالا إنّ “مرافقة المريض في محنته لا تختلف في معناها عن التشارك في الخبز”. فالمرافقة “ليست إرشاداً ولا توجيهاً، بل هي أقرب إلى مسار أو تجربة”. وترتكز المرافقة على احترام إيقاع حياة المريض. ويجدر بالمرافق قبول تقلّبات عيش المريض: غضبه، نكرانه المرض، صمته، ضياعه، ضحكه، وهدوؤه، من دون توجيهه أو هجره. وفي نهاية حياته يمكن المريض أن يكون صباحاً فاقداً الأمل، ثم ينوي طلاء نوافذ بيته في الضيعة باللون الأزرق لاستقبال فصل الربيع. في هذه الحال ينبغي على الممرض أو المرافق أن يفهم حاجة المريض إلى الكلام ومحاولة دفعه إلى التعبير عن نفسه.
ويقول الأب شلالا إن على المرافق إظهار ثقته بالمستقبل، ودفع المريض إلى الكلام، لكن بلا مبالغة،. ويضيف: “يكفي منح المريض شيئا من الطمأنينة بأننا دائما إلى جانبه”. ويعتبر أن ليس هناك من كلمات أو تعابير سيئة بحدّ ذاتها، بل على المرافق معرفة ما الذي ينتظر المريض أن يسمعه أو، على العكس، ما الذي لا يقوى على سماعه.
غالبا ما يشعر مريض السرطان أنه يود لو يستسلم، أو أنه منفصل عن الآخرين، اعتقادًا منه أنهم غير قادرين على فهم حالته. لذا لا يتحدث عن مرضه مع الآخرين، لا سيما المقرّبين منه. وذلك لأسباب عدّة أبرزها نظرة الآخرين إليه وإلى العلاقات العائلية المضطربة. فمرض السرطان يصدّع العلاقات العائلية، كما يفتك بجسد المريض. أحيانا يراعي المريض مشاعر محبّيه ويحاول حمايتهم. في المقلب الآخر يشعر أفراد عائلته بعدم القدرة على التواصل مع المريض، أو يتصرفون تصرفات خرقاء عن غير قصد.
ويرى الأب شلالا أنّ المريض يشعر بضعفه وهشاشته حيال المرافق، فلا يجرؤ على طلب المساعد: “هنا، يلعب الممرض المرافق دوره الأساسي في فهم المريض أكثر من غيره. فالهشاشة في ذاتها نداء غير مباشر ولا واضح للمساعدة. والعناية تحمل معاني الحنان والحساسية والقدرة على الإصغاء.
لكن المرافقة تذهب أبعد من العاطفة التي قد لا تخدم المريض وصحتّه النفسية.
المرافقة عند التشخيص
ليس هناك من طريقة جميلة لإعلان خبر سيئ. لكن، وكما يقول جاك بريل، نقوم بما نستطيع، لكن هناك الأسلوب. ويتساءل الدكتور مرسيل مسعود، رئيس قسم طب الدم والأورام في مستشفى سيدة المعونات: “كيف نعلن للمريض خبر إصابته بالسرطان، وكذلك لعائلته وللأقارب؟ ماذا نقول للأشخاص الذين يتصلون للاطمئنان عليه؟ هل نقول الحقيقة؟ كلها؟ هل نعلم المريض بنسبة شفاءه؟ هل نحميه من الحقيقة، أم نقولها جليّة؟ كثيرة هي الأسئلة التي ترافق مرحلة التشخيص، أي مرحلة المرض الأولى، والآراء حولها أكثر بكثير.
يعتقد الدكتور مسعود بأنّ على الطبيب اختيار الزمان والمكان الملائمين لإعلان التشخيص للمريض وعائلته: “المستشفى ليست المكان الملائم لإعلان التشخيص، ولا الاتصال الهاتفي طريقة ملائمة. على الطبيب اختيار مكان هادئ ملائم للتحدث بروية مع المريض وأهله، من دون تحديد الوقت اللازم للمحادثة الدقيقة. وليس الطبيب من يختار الأشخاص لسماع الخبر للمرة الأولى، بل المريض نفسه. في هذه الجلسة تُقيّم معرفة المريض بوضعه حتى اللحظة، ومدى جهوزيته لسماع الخبر السيء، ويقدر الطبيب ماذا يريد المريض أن يعرف عن حالته الطبية. ويشدد الدكتور مسعود على التدرج في إعلان التشخيص، ما يتيح للطبيب تقدير تقلّب مشاعر المريض. ويمكن للتشخيص أن يتطلب أكثر من جلسة واحدة، حسب المريض وحالته النفسية. في الختام، يجري تلخيص الوضع للمريض وعائلته بشكل يتيح لهم فهم الحالة، قبل إعلان الطبيب خطة العلاج المستقبلية.
أما كيف نخبر الأولاد عن مرض الأهل، فهذا موضوع آخر. فعدم إخبارهم قد ينتج عنه فقدان الثقة وتزعزع العلاقة بين الطفل والأهل. ويمكن لمخيّلته الصغيرة الخصبة أن تذهب إلى سيناريوهات ربما تكون أكثر صعوبة وخطورة من حقيقة الواقع المخفيّة. وقد تنجم عن ذلك أمراض نفسية تتبلور قلقاً زائداً أو كآبة في المستقبل. أما الإفصاح الصريح، أو الصراحة الزائدة في الاعلان، فقد يؤديان إلى تردّدات من نوع آخر على صحة الولد النفسية، بسبب عدم قدرته على الاستيعاب. وقد يولّد إبلاغه بالحقيقة فقداناً تامّاً للأمل. والتسرع في الكلام وكثرته قد يشكلان صدمة عنيفة للولد.