من تابع بالأمس تحرك العسكريين المتقاعدين وأستمع إلى مطالبهم لا يسعه إلاّ أن يقف في صفوفهم ويؤيد ما يطالبون به، ويشد على أيديهم، لأنه يرى في هذا التحرك وجعًا ما بعده وجع، وهم ما نزلوا إلى الشارع إلاّ عندما أحسّوا أن دولتهم، التي كانوا في يوم من الأيام مستعدين لأن يضحّوا بأرواحهم فداء لها، وقد سقط من بينهم شهداء وجرحى لا يزالون يعانون من جراء ما أصابهم من تشوهات.
لم يكتف هؤلاء العسكريون، الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم في الخدمة الفعلية، بإصدار البيانات وتوضيح مواقفهم، بل قرروا التصعيد والمواجهة من أجل إيصال صوتهم، على رغم أن بعضًا من رفاق السلاح يرى في تحرك البعض نوعًا من تفتيش عن دور وحبًّا للظهور، من دون أن يعني ذلك تبنيًّا لهذا الموقف، الذي يبقى وجهة نظر قابلة للجدل، ولكن ليس على حساب قضية إنقسم الرأي العام على توصيفها، مع الأخذ في الإعتبار حجم التضحيات الكبيرة، التي قدّمها هؤلاء يوم كان الوطن في حاجة إليهم، قبل أن يحالوا على التقاعد.
أما الذين استمعوا إلى المنطق، الذي يحاول المسؤولون من خلاله تسويق ما في الموازنة من إجراءات موجعة، فلا بدّ له من أن يجاريهم، من حيث أن هذه الإجراءات هي بمثابة العملية الجراحية، التي يضطّر الأطباء لإجرائها لإستئصال الورم، قبل أن يفتك بالمريض.
ووفق المنطق، الذي سمعناه من أكثر من مسؤول، فإن اللجوء إلى إتخاذ بعض الإجراءات الموجعة، ومن بينها تخفيض نسبة معينة من رواتب بعض الموظفين أو إقتطاع جزء من تعويضاتهم أو قصقصة بعض من تقديمات نهاية الخدمة، يبدو من حيث المنطق العام وبعيدًا من الشعبوية أن فيه الكثير من الأمور الواقعية.
فالواقع الذي يعيشه لبنان، وهو المقبل على مرحلة دقيقة وحساسة وخطيرة، إقتصاديًا وماليًا، وهذا ما حذّر منه البنك الدولي أكثر من مرّة، لا يحتمل المسايرة وعدم مصارحة الناس، لأن إقتطاع جزء من رواتب الموظفين يبقى أفضل بكثير من عدم تمكّن الدولة من دفع كامل هذه الرواتب، في حال لم تلجأ إلى خيارات أحلاها مرّ، وهذا ما يحاول وزير المال علي حسن خليل التعامل معه، من دون أن يعني ذلك إعفاء المسؤولين من مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد، إذ كان مفترضًا بهم تدارك خطورتها قبل الوصول إليها وعدم ترك الأمور تنزلق إلى هذا الدرك، الذي لم تعد تنفع معه المعالجات الروتينية والإكتفاء بالمسكنات لمداواة مرض خبيث يهدّد إنتشاره كامل الجسم اللبناني.
ففي عيد العمال لا بدّ من وقفة جريئة أمام ما يتعرّض له الوطن من ويلات تبدو مسرعة الخطوات، ولا بدّ بالتالي من التطلع إلى الأمور بكثير من الموضوعية والشفافية، لأن الوقوف على الأطلال في مثل هذه الحال لن يؤدي إلى أي مكان، بل من شأنه أن يفاقم الأمور ويجعلها أكثر تعقيدًا من ذي قبل.
فيا عمّال لبنان، هذه هي دولتكم بكل ما فيها من أخطاء وتراكمات الماضي.
ويا أيتها الدولة غير المحسودة، هؤلاء هم عمّال لبنان، الذين أصبح عدد كبير منهم يعيش تحت خط الفقر.
فما بين عجز الدولة وشعورعمّال لبنان بالغبن والحرمان تقف البلاد على شفير الهاوية. إذا سقطت فيها فلن ينجو من هول هذا السقوط أحد.
لبنان 24