إنها الذكرى الرابعة والأربعين للحرب الأهلية اللبنانية التي انفجرت في نيسان 1975، وهي مناسبة متجددة لطرح كثير من الأسئلة بالرغم من مرور قرابة ثلاثة عقود على انتهائها “النظري”؛ أسئلة عن مبرر الفظائع التي ارتكبت ولم تتم محاكمة مقترفيها، عن حقيقة التمسك بالسلم الأهلي الهشّ وبناء المواطنة المفقودة بعد استخلاص العبر من إرثها الثقيل، وعن إمكانية انهيار ما تحقق في ظل تنكر المشاركين فيها أو بعضهم عن إجراء مراجعات نقدية لما ارتكبوه بحق الوطن والإنسان.
لسنين طويلة كان لبنان مسرحاً لحرب بشعة على أرضه، استنزفت من دماء أبنائه وحيواتهم وأرزاقهم وتعليمهم وتآلفهم وعيشهم الواحد، وفوق ذلك استنزفت استقرار البلد السياسي والاقتصادي والأمني.. هكذا، وبفعل فاعل، صار البلد الذي كان أنموذجاً رائداً في التعايش والتعددية والنمو، “شبه وطن” مقسّم ومثقلاً بالاضطرابات الأمنية وموزع الولاء على المحاور والمتربصين، ومثقلاً ايضاً بالديون التي أرهقت اقتصاده وماليته ونموّه، لكن الأخطر من كل ذلك هو “مشروعات الحروب” التي تتحين الفرص للانقضاض على كل ما أنجز منذ العام 1990 بعد اتفاق الطائف.
يحلو لكثيرين في مقام تذكر الحرب اللبنانية، استعراض ما حفظه الأرشيف من صور تجسّد فظاعة الارتكابات والأهوال والمآسي التي صاحبتها، صور سكنت الذاكرة من دون استئذان، ولا يكفّ تؤلم من عايش تلك المراحل لأنها تجسّد الإرث الثقيل لعمليات القتل والخطف بعبثية وطيش واحتقار لكل المفاهيم الإنسانية والدينية والثقافية.. إرثٌ ترك ندوباً كبيرة في الذاكرة اللبنانية، بشقيها الفردي والجماعي، وهو ما يحول دون تجديد حقيقي للعقد الاجتماعي، بشروطه المعتبرة، كمدخل للتسوية التاريخية بين اللبنانيين، تعزز ما توصلوا إليه في الطائف، على غرار ما آلت إليه تجارب أمم مرت بظروف مشابهة، فكل شيء يبقى كامناً إذا لم يتحقق شرطا: “التذكّر” و”الاعتراف”؛ تذكّر أبطال الحرب لـ “أدوارهم”، واعتراف الجلادين بما اقترفوه وطلبهم السماح من الضحايا كمدخل ضروري للنسيان والتجاوز، وكل ذلك.. كل ذلك قليل جداً إذا ما قورن بالتركة الباهظة التي خلفتها عشرون سنة من الاقتتال ( 200 ألف ضحية، و197 ألف جريح ومعاق، و19 ألف عملية خطف).
كيف نلغي خطوط التماس من وعي اللبنانيين، ونغرس مكانها حقائق نظيفة تبني الغد على أسس صلبة.
حقيقة أن حماية النظام ليست من مسؤولية الطوائف أو ميليشياتها، بل مسؤولية المواطنين في صون الوطن من خلال مواطنة كاملة ومتساوية.
وحقيقة أن الخلافات حول الصلاحيات والإصلاح والفساد عميقة وكبيرة، وحقيقة أن الدولة ضعيفة أو مستضعفة، وحقيقة أن الاستسلام للخارج، أيّ خارج، هو ارتهان يستجلب ذلاً ودماراً وتفكيكاً للعقد السياسي والاجتماعي، من دون أن ينتج أية مكاسب.
وحقيقة أن التنوع قيمة مضافة، وأن الاختلاف سُنة إنسانية مشروعة، وأن التماهي مع القضايا الخارجية لا ينبغي أن يتقدم على المسألة الوطنية في شيء.
وحقيقة أن اللجوء الى الحوار لحل المشاكل والخلافات ضمن التنوّع هو ما يميّز هذا الوطن كنموذج لتلاقي الاديان والحضارات.
وحقيقة أننا فشلنا في لملمة تداعيات الحرب بالرغم من مضي 29 سنة على الانتهاء النظري لها، إذ بعض ملفاتها ما زالت حاضرة وبقوة، بآلامها ومآسيها وصورها، وربما بممارساتها، من يعطي جواباً شافياً لأهالي المفقودين الذين يحفر الوجع في قلوبهم منذ عقود؟ وكيف يعقل أن ملف التهجير والمهجرين لم يقفل حتى الآن؟
لملمة إرث الحرب ممارسة جمعية، لكنها قبل ذلك سلوك فردي. في مراجعات السياسيين، في تراجع الجلادين، في شهادات الضحايا، كما في الأعمال الأدبية والإبداعية. وإذا كانت الذاكرة تحفظ أحداث الماضي عِبرةً للمستقبل، فإن النسيان يقول لنا أي ذاكرة تستحق أن نحتفل بها أو نحتفي بطيّها، وأي ذاكرة علينا أن نتركها تذهب بسلام ليلفها النسيان ببلسمه، فللتاريخ وظيفة تربوية، وليس فقط ايضاح الحقائق. وفي بلد تعددي منقسم، مثل لبنان يجب أن تكون هذه وظيفة التاريخ ودوره، لكن دون تشويه أو تعمية أو كتمان.
في ذكرى الحرب الأهلية، نحتاج ذاكرة من نوع آخر، تحتفظ بخطوط التماس لتدلل على آثار الحرب البغيضة ولتذكر اللبنانيين بأنه كان من الممكن جداً تفادي كل ما حصل لو أعملوا العقل، وأعلوا المصلحة الوطنية.. فلا يكفي أن نقول تنذكر وما تنعاد!!
لبنان 24