المصدر : منير الربيع – المدن
بعث الرئيس سعد الحريري رسالة إلى مختلف القوى السياسية، تقول أن “الكيل قد طفح”.
الحريري الذي تعامل مع الجميع، طوال الفترة الماضية، بـ”طيبة قلب”، وأراد التغاضي عن بعض الملفات السياسية، في سبيل الإقتصاد، اكتشف أخيراً أن كل الضغوط تصب عليه، وغايتها تطويقه وتحجيمه أكثر.
كرامة السنيورة وضرب “سيدر”
الهجوم على الرئيس فؤاد السنيورة هو الذي دفع الحريري إلى الانتفاض، والتعبير في أحد المجالس بأن “كرامة السنيورة من كرامته”، وأكّد أنه مع مكافحة الفساد ويجب الشروع بالإصلاح، وهذا في أساس مؤتمر سيدر، وللحصول على مندرجاته. واعتبر أن هذا النمط من التهجم والاستنسابية في مكافحة الفساد، لن يوصلا إلى المبتغى المطلوب. بل، ستدخلان البلاد في انقسام سياسي جديد، لا يؤدي جدياً لمكافحة الفساد.
في معركة مكافحة الفساد، يتجه الحريري إلى الارتكاز على مؤتمر سيدر، والذي يفرض على الدولة اللبنانية الشروع بتنفيذ الإصلاحات، بينما هناك من يتحدث في “تيار المستقبل” عن أن حزب الله لا يريد سيدر. ولذلك، استبقه بإطلاق حملة مكافحة الفساد، التي سيكون لها أهداف سياسية وتقنية. وفي تقدير المستقبليين، أن الحزب لا يريد برنامج مؤتمر سيدر، لأن كل الأعمال الرقابية على المشاريع الموافق عليها، ستكون من قبل لجان دولية. وهذا ما لا يمكن للحزب أن يوافق عليه، لأنه سيؤدي إلى انكشافه تقنياً، وإدارياً، وأمنياً.
دوكان والكهرباء و”التيار”
لذا، يبرز عامل أساسي، هو موقف “التيار الوطني الحرّ” في التعامل مع شروط مؤتمر سيدر، خصوصاً أن زيارة الموفد الفرنسي، المتخصص بكل بنود المؤتمر، بيار دوكان، لم تكن إيجابية، إذ نقل أجواء دولية سلبية تجاه الدولة اللبنانية، وأوصل رسائل عدم ثقة دولية بالتزام لبنان بهذه الشروط. وتكشف المصادر، أن دوكان، طالب الحكومة اللبنانية بإعداد خطة واضحة لمكلف الكهرباء، وتشكيل الهيئة الناظمة للقطاع، لكن طلبه رفض من قبل المعنيين بهذا الملف، لأن هناك تعزيز لصلاحيات الهيئة الناظمة وتخفيف صلاحيات الوزير، ما يعطي إنطباعاً سلبياً من جانب “التيار الوطني الحرّ”.
المعركة التلفزيونية
وصل الحريري إلى قناعة أنه هو الهدف. ولذلك، كان لا بد من شنّ هجوم مضاد، بدأ سياسياً بعيداً من الإعلام، وانتقل إلى العلن من خلال مقدمة تلفزيون المستقبل، والتي عبّرت إلى حدّ بعيد عن توجهات الحريري، ليس بالضرورة للدخول في هجوم يقضي على التسوية الرئاسية ومندرجاتها، إنما لإعادة التوازن، والقول للجميع إنه “لا يمكن القفز فوق جداره”. مع بداية الحملة على السنيورة، أبى الحريري أن يدخل في هذا السجال بشكل مباشر، باعتباره رئيساً للحكومة، لكنه أيضاً لم يرد أن يتخلى عن السنيورة، لا سيما بعد تأكده من أن الهجوم على المحسوبين على الحريرية السياسية يستهدفه هو، والغاية منه تطويقه وحصاره.
كان الحضور السياسي “المستقبلي” في مؤتمر السنيورة، إشارة لافتة، لكن لم يلتقطها المهاجمون، فاعتبروا أن الحريري معروف بنفسه القصير، أو أنه لن يستمرّ طويلاً في معركة الدفاع عن السنيورة. واللافت أنه بالتزامن مع الهجوم، الذي بدأه حزب الله على الحريري، كان التيار الوطني الحرّ أكثر المنتشين بهذه الحملة، خصوصاً أن الودّ مفقود كلياً مع السنيورة، الذي كان من أشد المعارضين للتسوية الرئاسية. دخل المسؤولون في التيار الوطني الحرّ ووسائل الإعلام التابعة له على خطّ شن الحملات على السنيورة. فما كان من الحريري، إلا أن اتخذ موقفاً واضحاً، عبّرت عنه مقدمة المستقبل. وحسب ما تؤكد المصادر المتابعة، فإن الحريري لن يتراجع في الدفاع عن السنيورة، باعتباره دفاعاً عن نفسه وعن مسيرة تياره، وبالتالي لا مجال للتراجع لديه، أولاً من الناحية المبدئية، وثانياً من الناحية السياسية، خصوصاً ان هناك معركة انتخابية مرتقبة في طرابلس، ولا يمكن التساهل معها، ولا بد من إعادة إعلاء نبرة الخطاب السياسي.
السنيورة لنيابة طرابلس؟
ولهذا كله، تكشف المصادر، تلقى الحريري الكثير من النصائح، بوجوب ترشيح السنيورة في طرابلس لخوض معركة الانتخابات الفرعية، أولاً لرمزية طرابلس سنياً، وثانياً لأن السنيورة سيكون قادراً على تحفيز الناخبين في انتخابات فرعية، وثالثاً يتم ردّ الاعتبار للسنيورة.. وإدخاله إلى المجلس النيابي سيمثّل ضربة لكل الشامتين والمستفردين، وبذلك يؤكد الحريري شد العضد في بيئته وتياره.
لكن بلا شك أن أي خطوة من هذا النوع، ستعني أن الحريري يستعد لقلب الطاولة على بعض القوى التي دخل في تفاهمات وتحالفات معها. وقد تكون خطوته التالية استفزازية بالنسبة إليهم. ولذا، عليه أن يزنها بميزان بالغ الدقة، لمعرفة مدى فوائدها من خسائرها. لكن، بمعزل عن قرار ترشيح السنيورة في طرابلس من عدمه، فإن التطورات الأخيرة فرضت على الحريري أسلوباً مغايراً في التعاطي السياسي، وهذا سيتعزز في المرحلة المقبلة.
بداية، دخل الحريري بالتسوية الرئاسية من منطلق عدم وجود أي حيلة أخرى، أو خيارات سياسية بديلة. فكان لا بد من العودة إلى السلطة من بوابة “التسوية المرّة”، التي تبقى مرارتها أفضل من مرارات الغياب. وأبرم توافقات كان حريصاً عليها، لكن شركاءه فيها غالباً ما انقلبوا عليه، أو أرادوا تحويلها إلى محاولة لاستنزافه وابتزازه وتطويقه. بينما في المقابل، لم تكن هناك رؤية واضحة بينه وبين حلفائه التقليديين، فاختلف مرات مع “التقدمي الإشتراكي” في قضايا ومواقف، وكذلك فعل مع القوات اللبنانية، ومعظم الأحيان بما يرضي “الشريك” جبران باسيل.
“مجموعة العشرين”
مع دخول الحريري في التسوية، تشكّلت على يسار “تيار المستقبل” ما يسمى “مجموعة العشرين” الرافضة لهذه التنازلات. وكانت في مرحلة معينة على خصومة مع خيارات الحريري نفسه. اليوم، أصبح لدى الحريري فرصة أساسية، قادر من خلالها على تعزيز دوره السياسي، القائم على أساس التوازن مع الخصوم، كأن يستمرّ هو في إدارة الملفات الاقتصادية والحكومية، مقابل إعادة حلقة “مجموعة العشرين” إلى جانبه، على نحو يكون لديهم ملف الإدارة السياسية عند أي مواجهة أو معركة مفترضة، على غرار ما كان يحدث عند حصول اشتباك على الصلاحيات، في مرحلة مفاوضات تشكيل الحكومة.
خيارات أخرى
يعني ذلك، أن يستخدم الحريري يديه الاثنتين. في اليمنى، خياراته الهادئة والساعية إلى تمرير الأمور، والحفاظ على التسوية ومندرجاتها. وفي اليسرى، عصا التصعيد السياسي، بالاستناد إلى السنيورة وغيره من الشخصيات السياسية، السنية تحديداً، لمواجهة أي محاولة لتطويقه أو توجيه ضربة إليه داخل بيئته الاجتماعية. وأيضاً، يبقى أمام الحريري خيار آخر، هو الاستمرار بالحفاظ على التسوية، ولكن الحفاظ كذلك على تحالفاته التقليدية، أوسع من الإطار السنّي، والعودة إلى الإطار الوطني، كحال تحالف 14 آذار، وتعزيز علاقته أكثر مع الاشتراكي والقوات، من أجل الحفاظ على التوازن السياسي العام، وحماية نفسه من أي محاولة حصار أو استضعاف.