إذا كنت أحد المهووسين بالأفلام والمسلسلات التي تستعرض جرائم حقيقية مثل القتل والسرقة والخطف، اطمئن، لست وحدك.
ورغم أن الأعمال التي تتناول مثل هذا النوع من الجرائم اشتهرت في ستينيات القرن الماضي وانتشرت الوثائقيات عن هذا الموضوع في الثمانينيات، فإن ثقافة الجرائم الحقيقية زادت شعبيتها في السنوات الأخيرة، وامتدت إلى منصات البث والبرامج التلفزيونية والبودكاست.
وبات من المُلاحظ وجود تلك الفئة ضمن قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة على منصة “نتفليكس” مثل فيلم “مسرح الجريمة: الاختفاء في فندق سيسيل” (Crime Scene: The Vanishing at Cecil Hotel)، والمسلسل الوثائقي القصير “هذه عملية سطو: أعظم سرقة فنية في العالم” (This Is a Robbery: The World’s Greatest Art Heist)، والفيلم الوثائقي “قتل المورمون” (Murder Of the Mormons).
تغيير خريطة الدراما
هذا التغيير ضمن خريطة الأعمال الأكثر مشاهدة ألهم منصة “هولو” (Hulu) لإنتاج مسلسل “فقط جرائم القتل في المبنى” (Only Murders in the Building) الذي يروي قصة جريمة تحدث في إحدى المباني، فيُقرر 3 من القاطنين بالبناية نفسها والمهووسين ببودكاست الجريمة التعاون من أجل حل اللغز.
كذلك اختار صناع برنامج المنوعات الكوميدي الأميركي “ساترداي نايت لايف” (Saturday Night Live) (SNL) تسليط الضوء على تلك الظاهرة من خلال عرض هزلي بعنوان “عرض القتل” (Murder Show).
6 أسباب تدفعك إلى الوقوع بحب الجرائم الحقيقية
كل ما سبق يضعنا أمام تساؤل حتمي: لماذا كل هذا الهوس الجماهيري بالجرائم الحقيقية
فمع الزيادة الملحوظة بمعدل الجريمة على أرض الواقع أكثر من أي وقت آخر، يجد البعض أن من الغريب أن يميل الإنسان إلى مشاهدة الجريمة في وقت فراغه! غير أن الأطباء النفسيين كان لهم رأي مغاير، وإليكم تفسيراتهم العلمية لذلك.
هروب أم شماتة؟
التفسير النفسي الأول لظاهرة الوقوع بحب متابعة قصص الجرائم هو محاولة المشاهدين الهروب الجزئي من الواقع، أما الثاني فمُتعلّق بالفضول المَرَضي لديهم لمعرفة ما جرى لهؤلاء ممن خالفوا القانون.
لكن سيغموند فرويد كان له رأي ثالث، إذ عزا ذلك إلى الشعور بالشماتة والمتعة الناجمة عن تتبع معاناة الآخرين، ولكن ليس بدافع نية خبيثة بل لأن الأحداث السيئة حين تحدث للآخرين تبعث على الارتياح والاطمئنان والشعور بأننا قد نجونا من كارثة مُحققة كان من الممكن أن نكون نحن ضحاياها.
الآخرون يتألمون أيضا
من جهتها، صرحت الطبيبة النفسية إف. ديان بارث، في حوار أجرته مع شبكة “إن بي سي نيوز” (NBC News)، بأن السبب النفسي وراء الهوس بالجرائم ومشاهدة المتورطين بالقضايا أو الحوارات مع الضحايا أنفسهم و/أو عائلاتهم وتعبيرهم عما ألمّ بهم من ألم بالتفصيل يعود إلى “الإحساس السائد بالعجز” لدى المشاهد ورغبته بإدراك أن الآخرين يشعرون بالألم تماما مثله.
وترى خبيرة العلاج النفسي كاثلين تشيك أن مشاهدة برامج الجريمة الحقيقية، بخاصة التي تدور حول القتلة، تمنح المشاهدين القدرة على معرفة ما يدور بعقل القاتل وهو ما يخلق بالتبعية حاجزا نفسيا ووقائيا لديهم ويجعلهم يعتقدون أنهم صاروا يعرفون كيف يمكنهم حماية أنفسهم.
إدارة المخاوف
ويقول الاختصاصي الاجتماعي الإكلينيكي ريك نيزارديني إن متابعة قصص الجرائم الحقيقية تتطرق إلى بعض المشاعر التي يحاول المرء الهروب منها أو عدم معالجتها مثل الشعور بالعَجز، أو انتهاك الروابط الوثيقة بالعائلة والأصدقاء، أو الخوف من العالم، ومع إثارة تلك المشاعر وطرحها على السطح يضع المرء قدميه على أول طريق التعافي.
كذلك تساعد الجريمة الحقيقية في إدارة مخاوفنا بشأن العالم مثلما حدث مع الشعب الأميركي بعد تولّي الرئيس السابق ترامب الحُكم أو في أوائل فترات تفشّي الكورونا، فالأمر يشبه أن تُخبر طفلا أن التنانين موجودة، الخبر نفسه لن يخيفه، لكنه يحتاج أن تؤكد له إمكانية هزيمة التنانين.
الرغبة بالاستعداد
كشفت إحدى الدراسات التي نُشرت عام 2010 أن النساء على وجه الخصوص يعشقن الجريمة الحقيقية وينجذبن إليها أكثر من الذكور وهو ما فسّره علماء النفس برغبة النساء بتلقّي نصائح تساعدهن على زيادة فرصهن بالبقاء على قيد الحياة إذا تعرضن يوما لموقف خطير يتطلّب منهن الدفاع عن أنفسهن ضد مُعتد.
وذلك ما جعلهن أيضا أكثر اهتماما من الرجال بالكتب التي تحتوي على معلومات عن دوافع القاتل أو الكتب التي جاءت ضحاياها من الإناث، ويتوافق هذا مع كون النساء أكثر خوفا من الرجال من فكرة الوقوع ضحية لجريمة ما، ومن ثم محاولاتهن المستمرة لمنع أنفسهن من الوقوع ضحايا، بخاصة أن أغلبهن يعتبرن مشاهدة الجرائم الحقيقية أشبه ببروفة استعداد.
بين سحر الشر وقوة النظام القضائي
الصراع بين الخير والشر طالما كان سببا للافتتان منذ الصغر ومن مُحفزات اندفاع الأدرينالين بالجسم، فالجميع يريد معرفة ما سيؤول إليه الأمر ومن عساه سينتصر، والأهم العثور على إجابات لأسئلة فضولية مثل: ما الذي دفع المجرمين إلى ارتكاب تلك الجرائم الفادحة؟ كيف كانت نشأتهم؟ وما أفكارهم عن أنفسهم؟ والأهم كيف عوقبوا؟
ولمّا كانت معظم المواد الترفيهية تُركّز على القضايا التي تم حلها بالفعل، فإن ذلك بدوره يمنح المشاهد الشعور بالأمان والثقة بالنظام القضائي، كذلك يدفع المجتمع إلى إجراء تغييرات على أرض الواقع وقابلة للقياس في سبيل دعم ضحايا العنف المنزلي وما شابه.
أنا ناجٍ إذن أنا موجود
الناجون أيضا يحتاجون إلى انتشار قصص الجرائم على نطاق واسع في المجتمع. فحسب ما أظهرت إحدى الدراسات التي تناولت الناجين من العنف المنزلي الذين يستمعون إلى المدونات الصوتية للجريمة الحقيقية، فقد أعرب الناجون عن شعورهم بالارتياح بعد أن عُرضت قصصا تُشبه حكاياتهم، وصاروا أخيرا جزءا من الهوية الجماعية والمجتمع الافتراضي.
هل مشاهدة الجرائم الحقيقية لها أبعاد علاجية؟
بعد تعرُّفنا إلى الدوافع النفسية السابقة، يتساءل البعض: هل هذا يعني أن مشاهدة أفلام ومسلسلات عن الجرائم الحقيقية له خصائص علاجية؟ يمكن عدّ ذلك صحيحا، لأنه يمنح المشاهد نوعا من الدعم مثل الذي يحدث في مجموعات الدعم النفسي، حيث يتشارك الجميع معاناتهم وما تعرضوا له من صدمات، فإذا بكل شخص بالمجموعة يدرك أنه ليس وحيدا.
ولكن في الوقت نفسه، يقدم هذا النوع من الدراما أحيانا إحساسا زائفا بالأمان، والأكثر سوءا أنه قد يُظهر القتلة والأشرار بطريقة تدعو للانبهار بهم وليس نقدهم أو توجيه اللوم إليهم، ولذا من الضروري أن يراعي صنّاع الأعمال التي تستعرض الجرائم الحقيقية، تلك الإشكالية.
ومن الأمور التي تثير القلق لدى الخبراء النفسيين أيضا هو أن التعاطي المستمر إلى حدّ الهوس بقصص الجريمة قد يكون له تبعات غير صحية نفسيا وعقليا. فمن جهة، من المُحتمل أن يتسبب ذلك بصدمة للناجين من جرائم عنف مشابهة عند إثارة المشاهد إلى درجة مفرطة من دون وجود نظام دعم لمناقشة ومعالجة هذه المشاعر والذكريات أو الأعراض الجسدية. “الجزيرة”