استثمار وقت الفراغ استثمارا إيجابيا هو فن من فنون الحياة المعاصرة، لا تقل أهميته عن الوقت الذي نقضيه في ساعات العمل، وهناك من يخصص وقت الفراغ للاسترخاء التام من دون فعل أي شيء، أو الاستمتاع بمشاهدة مناظر جميلة أو الذهاب في رحلات ترفيهية، وهناك من يفضل ممارسة أي هواية مفيدة، أو تخصيص وقت الفراغ لمشاهدة التلفاز أو مشاهدة مباراة لكرة القدم أو التسلية على الهاتف، وغير ذلك من الأنشطة.
ولكن هل نشعر بالسعادة في أوقات الفراغ؟ وهل الكثير منها مصدر لتعاستنا؟ حول هذه النقاط حاورت الجزيرة نت اختصاصيين للإفادة بآرائهم العلمية.
ملء الفراغ بأنشطة محفزة
تقول خبيرة إدارة المشاريع وتنظيم الوقت ديانا أبو عبيد “إن التطور المستمر والسريع في شتى نواحي الحياة قد أدى إلى خلق واقع سريع الخطى، بدوره ولّد ضغطا جديدا من نوعه أثر على مقدرة الأفراد على الموازنة بين أمورهم الحياتية والعملية، ودفع العديد من الأشخاص إلى التركيز على جانب معين من حياتهم يتناسب مع تطلعاتهم وأهدافهم الحياتية بغية إتقانه على أكمل وجه، أو ظنًّا منهم بأن هذا سيجلب لهم السعادة والرضا”.
ولأن الإنسان بطبيعته كائن منتج ولديه حاجة مستمرة للتطور والنمو في مختلف مجالات الحياة، فإن ذلك من الممكن أن يولّد لديه حالة من الروتين في حلقة مغلقة تقف عائقا بينه وبين الاستمرار في الإنتاج والنمو، ومن ثم تؤدي إلى عدم الرضا عن النفس.
وتؤكد الخبيرة أبو عبيد أن الإنسان “لم يخلق ليقضي كل وقته في العمل، لأن طاقته ستنفد، وسيفقد قدرته على ممارسة الأنشطة المتعلقة بالجوانب الأخرى من حياته، ومن ثم من الممكن أن يؤدي ذلك إلى شعوره بالوحدة والانعزال. وكذلك الأمر بخصوص وقت الفراغ، فجميعنا نأمل أن نحصل على وقت فراغ أكبر للتركيز على أنفسنا والابتعاد عن مشاغل الحياة اليومية، ولكن إن لم نملأ الفراغ بأنشطة محفزة، سواء كانت قضاء الوقت مع الأسرة أو ممارسة هواية معينة، فإن ذلك أيضًا سيؤثر سلبيا علينا، ومن الممكن أن يمنحنا شعورا بقلة الفائدة”.
خلق توازن صحي
وتقول أبو عبيد إن من المهم لكل شخص خلق توازن صحي بين العمل والأسرة والحياة الاجتماعية والهوايات، وكذلك وقت الفراغ الشخصي، ولكن الأهم هو كيفية التعامل مع أوقات فراغنا، إذ أثبتت العديد من الدراسات أهمية الاستثمار في أوقات الفراغ لاكتشاف هواية معينة أو ممارستها، بغض النظر عن نوعها بدلا من قضاء الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي أو مشاهدة التلفاز، وذلك يساعد على الحفاظ على الصحة النفسية، ومن ثم ضمان الرضا الداخلي والسعادة التي تنعكس على الجوانب الأخرى من حياتنا، وهي:
الجانب الشخصي: العديد من الأشخاص لا يمتلكون هواية معينة، ولكن لا ينبغي لذلك أن يقف عقبة تمنعهم من البدء بممارسة أنشطة مختلفة، فيمكن البدء بما يتناسب مع اهتماماتهم الشخصية للتمكن في النهاية من اكتشاف الهواية الملائمة، ذلك أن امتلاك هواية معينة أو تجربة أنشطة مختلفة يساعد على تقوية شخصية الإنسان وبناء هويته، كما أن ممارسة شيء محبب للنفس يزيد من ثقة الشخص بنفسه ويشحنها بطاقة إيجابية تساعده على إتمام بقية واجباته الحياتية.
الجانب الأسري: تسهم ممارسة الهوايات في الحفاظ على الصحة النفسية، بحيث تخلق مساحة شخصية للتنفيس عن التوتر وضغوط الحياة بدلا من التنفيس عنها داخل الأسرة، وتمدّ الشخص بطاقة إيجابية وتزيد من قدرته الاستيعابية للتعامل مع الأمور الأخرى، وينعكس ذلك على حياته الأسرية وأفراد أسرته ويزيد من سعادتهم. ويمكن أن ينتج عن ذلك زيادة قابلية أفراد الأسرة للبحث عن أنشطة أو اهتمامات مشتركة، وذلك يؤدي إلى زيادة ترابط الأسرة عند ممارستها.
الحياة العملية: إن ممارسة الهوايات والأنشطة المختلفة تنمّي الذكاء الاجتماعي والعاطفي لدى الإنسان وتفتح آفاقا جديدة أمامه تساعده على تنمية الفكر الإبداعي لديه، ومن ثم اللجوء إلى أساليب مبتكرة في عمله تسهم في تمييزه وتطوره، كما أن ممارسة الأنشطة والهوايات ستدفع الشخص إلى تنظيم وقته تنظيما أفضل وإتمام أعماله في وقتها بدلا من تأجيلها بدافع إمكانية استغلال وقت الفراغ.
الجانب الاجتماعي: العديد من الأشخاص يعانون من القلق الاجتماعي وصعوبة التأقلم، وذلك يمكن التغلب عليه عند ممارسة الأنشطة أو الهوايات في أوقات الفراغ، لأنها تخلق للشخص فرصا لاكتساب العديد من التجارب التي تعمّق الثقة بالنفس، كما أنها تساعد الفرد على توسيع نطاق معارفه عن طريق التعرف على الأشخاص ذوي الاهتمامات نفسها، ومن ثم ممارسة حياة اجتماعية صحية.
وقت الفراغ والأمراض النفسية
من جهته، يقول استشاري الطب النفسي الدكتور أشرف الصالحي إن وقت الفراغ من أهم الأمور في حياتنا، ولا يمكنه فقط أن يقلل من سعادتنا، بل يمكن أن يكون بابا من أبواب وجود الأمراض النفسية.
ويشرح أنه يقال في علم النفس “إن الإنسان إذا جلس ما يقارب 20 دقيقة وقت فراغ في الأسبوع وليس في اليوم فمن الممكن أن يخلق ذلك فرصة لنشوء مشاكل وأمراض نفسية لديه!”، معلقا أن هذه الجملة مرعبة فهي تعني 3 دقائق وقت فراغ في اليوم!
ويؤكد الصالحي في الوقت ذاته أنه لا يقصد بتنظيم وقت الفراغ عدم الاستمتاع بهواياتنا وأنشطتنا، فذلك من طرق الاستفادة من الوقت، “لكن المقصود بوقت الفراغ هو ذلك الوقت الذي لا نعمل فيه أي شيء، حتى إن كان ممتعا أو مفيدا”. وأضاف أننا نستثني من وقت الفراغ “أوقات العبادات والتأمل والاسترخاء، فهذه نشاطات هادفة”.
آليات تنظيم وقت الفراغ
وعن كيفية السيطرة على وقت الفراغ، يقول الصالحي إنه يجب أن تكون لدينا معرفة بآليات تنظيم الوقت، فمثلا يستطيع الفرد تحضير جدول أعماله اليومي وتجهيزه قبل يوم أو في صباح ذلك اليوم، ويلزم أن تكون لديه معرفة بكيفية ترتيب يومه، وما لديه من نشاطات، “وعلينا التخطيط وصياغة الوقت وتنظيمه، ثم يجب أن تكون لدينا مرونة، فإذا حدث خلل في التخطيط اليومي فليس نهاية العالم، بل تكون لدينا خطة بديلة”.
ويلفت الصالحي إلى أن العمل مهم جدا في حياتنا، ليس فقط من أجل المال، ولكن لقيمته في تنظيم وقتنا وإعطائنا كينونة وأهمية.
ويقول الصالحي للجزيرة نت “يجب ألا يخصص كل وقتنا للعمل والتطور، بل نرفّه عن أنفسنا بما هو جميل وممتع، ولا نلتفت للأشياء التي ليس لها قيمة. وحتى نتخلص من التعاسة يجب أن نصاحب وقتنا، وندرك بأنه مهم، ونراقب أنفسنا وماذا نفعل، فعندما تصبح الخمس دقائق مهمة في حياة الفرد، فهذا الأمر من أهم العلامات بأنه مسيطر على حياته ومتمكن منها”. “الجزيرة”