يحتفل الناس عادةً بنجاحهم أو تفوّقهم أو تحقيقهم إنجازاً معيّناً، إلّا أن هذه الأمور باتت “موضة قديمة” بالنسبة ل#لبنانيين، الذين احتفل بعضهم أمس برسوب أولاده ب#الامتحانات الرسمية تحت ذريعة “الله يساعد هالجيل كيف بدو يركز بعد اللي صار؟!”.
“جنّت العالم”، عبارة تتردّد على مسامعنا أخيراً عالـ”طالعة والنازلة”، إلّا أن ثمة مواقف تدفعنا مرغمين إلى تصديقها أو حتّى التشكيك في صحّتنا العقلية، غير أنّنا نعود إلى واقعنا لندرك أننا نعيش في بلاد العجائب حيث كل شيء متوقع… حتّى الاحتفال بالفشل!
مفرقعات “الرسوب” تُزيّن سماء بيروت: “شو آخر الدني؟”
بعد صدور ال#نتائج، اهتزّت منازلنا ابتهاجاً بالمفرقعات والرصاص الذي أطلق من كل حدب وصوب وكأننا في ساحة معركة، ولكن المضحك المبكي هو أن تلك الرصاصات التي استقرت في قلب امرأة في بعلبك وأصابت رجلاً في بيروت، لا علاقة لها بالنجاح من قريب ولا من بعيد، وهنا بيت القصيد.
بعد ليلة “عامرة” بالألعاب النارية، التقيت بجارتنا صباح اليوم التي كانت ترقص على أنغام أغنية عبد الحليم حافظ “وحياة قلبي وأفراحه” مساءً، هي التي كان من المفترض أن تحتفل بابنها الوحيد الذي قدّم امتحاناته الرسمية قبل أسابيع، فشعرت بأنّه من باب اللباقة يجب أن أبارك لها، فقلت بثقة: “مبارك النجاح، وعقبى للأعلى… ماذا قرّر أن يتخصّص؟”، لتُجيبني بضحكة ساخرة: “سيُعيد دورته… عالله”. فخجلت من نفسي وارتبكت، ماذا يُقال في مثل هذه المواقف؟
قبل سنوات كنا إذا رسبنا في مادة واحدة نخجل من أنفسنا ولا نقوى على مجابهة أهلنا حتّى وإن كنا ناجحين، ولكن كما يقول المثل “الدنيا دوّارة”، إذ أصبح بعض الأهل هم الذين يبرّرون رسوب أولادهم ويحتفلون به وكأن أحداً لعب بإعدادات الحياة لتتبدّل بهذا الشكل.
“شو آخر الدني؟”، بهذه الكلمات برّرت جارتي رسوب ابنها، معتبرةً أن “المشاكل والأزمات التي عصفت بالبلد ولا سيّما بعد كورونا وانفجار مرفأ بيروت، تركت أثراً كبيراً لدى الطلاب، وبالتالي انعكست سلباً على نتائجهم المدرسية وقدرتهم على التركيز، فماذا تنتظرون من جيل كل تفكيره بالهجرة والهروب من واقع أليم لا أمل فيه؟!”.
أمّا آمال خير الله، أم الشاب الياس، الذي احتفل قبل أيام بعيد اسمه، فتؤكّد لـ”النهار” أنّها “ستقيم له حفلاً آخر الأحد المقبل ابتهاجاً برسوبه”، وتقول ممازحة: “شو اللي نجحوا أحسن من ابني؟ ونحنا كمان منحتفل ما حدا أحسن من حدا”…
تُخبرنا الأم وكأنها لم تتعرّض لأيّ صدمة من جرّاء نتيجة ابنها، لا بل كأنّها كانت تتوقعها، “طوال الفترة الماضية كنت أعيد حساباتي، وأفكّر ماذا ستكون ردّة فعلي إذا رسب الياس، فالامتحانات كانت سهلة والغشّ على مدّ عينك والنظر، ومع هذا رسب، أليس غريباً؟ وفوق هذا كلّه لم أفكّر في رأي سلفتي أو جارتي أو أختي، فكرت في قلب الأم المحترق على ابنها وهو يتخبّط من أجل النجاح لكي يُثبت للآخرين أنّه بالمستوى المطلوب، وكأن تلك الكلمة ستُحدّد حياته ومستقبله، فالكثيرون فشلوا في بداياتهم إلّا أنّهم حقّقوا نقلات نوعية في ما بعد غيّرت مسار البشرية بأكملها، وربما هذا ما ينتظر ابني، فلمَ التشاؤم؟”.
كيف يُفسّر علم النفس هذه الحالات؟
توضح الاختصاصيّة النفسية رانيا رزق لـ”النهار” أن “هذه التصرّفات هي بمثابة ردود فعل طبيعية لدى بعض الأهل الذين يرفض عقلهم الباطن تصديق فشل أولادهم أو الاعتراف به، فيلجؤون إلى الحجج غير المقنعة أو الخارجة عن الطبيعة، ويتخذون منها شمّاعة لتعليق أخطائهم عساها تخفف من حجم الكارثة أو المسؤولية الملقاة على عاتقهم”.
في هذا الإطار، تُشير الاختصاصية في حديثها إلى أن “هذه الحالات ليست جديدة في مجتمعنا، ولكنها تنتشر في الفترة الأخيرة نتيجة التراكمات التي خلّفتها كورونا والحجر الصحيّ، وحاجة الناس إلى الخروج والترفيه عن النفس، وخاصة في لبنان حيث باتت ردة فعل الجميع عادية تجاه أيّ موضوع أو أزمة بعد كلّ ما تعرّضوا له”.
ولكن بالموازاة، تتخوّف رزق من “هذا الأمر، لأنّه قد ينعكس سلباً على العلاقة بين الأهل وأولادهم أو حتّى على سلوك الطالب نفسه، الذي قد يتساهل في دروسه أو يهملها بما أن عائلته تقبّلت خبر رسوبه بهذه البساطة وفوق هذا احتفلت به أيضاً، وبالتالي هذا التصرّف وفقاً لعلم النفس يُعدّ ردّة فعل متهوّرة ولا يمكن توقع تبعاتها على الأشخاص المعنيّين لاحقاً”.