لم يخطر ببال الصيداوي لبيب حجازي «أبو أحمد» يوماً أن يعيد فتح دكانه المتواضع في إحدى الأسواق الشعبية قرب الجامع «البراني» في شارع الشاكرية في صيدا، بعد عقدين ونيف على إقفاله قسراً إثر أفول نجم مهنة السمكري، بعدما أطفأت بدائل الطاقة الحديثة نيران البوابير النحاسية القديمة واللوكس وفوانيس الكاز التي كان يبيعها أو يصلحها، وأخمدت معها وهج صنعته التي أفنى فيها سني عمره.
يتنفّس المعلم «أبو أحمد» (74 عاماً) الصعداء، يجلس على كرسيه القديم وقد امتلأ دكانه المتواضع ذو الأبواب الخشبية الزرقاء بمختلف أدوات العمل إلى جانب عشرات من بوابير الكاز واللوكس والفوانيس وحتى النراجيل والساعات، يعكف على إصلاحها مجدداً بعدما أعادت الأزمة الروح لمهنته وأجبرت المواطنين على إصلاح مقتنياتهم المنزلية التقليدية.
«عود على بدء» يقول «أبو أحمد» لـ «نداء الوطن»، ويضيف «أعود فيه إلى بدايات حياتي مع فارق كبير في التاريخ، لقد أقفلت المحل لربع قرن وما يزيد بعدما تراجع الإقبال على المهنة ولم تعد تغني وتسمن من جوع. كنت معلّماً حينها وأصبحت عاملاً بعدها، أسعى وراء قوت يومي لإعالة أسرتي، ولكن منذ سنتين تقريباً ومع بدء الأزمة فتحته مجدداً وها أنا أزاول مهنتي التي أعشقها مجدداً… كأنّه حلم».
ويوضح «أن الضائقة أجبرت الناس على تصليح بوابير وقناديل الكاز وإعادتها إلى الخدمة، والكلفة أقل من شراء الجديد وتختلف بين قطعة وأخرى حسب نوعها والعطل فيها، أتقاضى أحياناً 75 ألف ليرة وقد تصل إلى 200 ألف ليرة، ويكون الزبون سعيداً بإصلاح أدواته». ويشير إلى أن زبائنه يعمدون إلى إصلاح أدواتهم تحسّباً وقد أبلغوه أنهم يخشون من تفاقم الأزمة ومن انقطاع وغلاء الغاز المنزلي، رغم أن سعر الكاز في ارتفاع ولكنّه في الأحوال كلّها يبقى أرخص من الغاز ومصروفه أقل، علماً أن البابور، هو موقد نحاسي يرتكز على ثلاث قوائم ويعمل على الكاز ويصدر هديراً وهو مشتعل، وكان يستخدم قديماً في أعمال الطهو أو تسخين الماء.
ومهنة السمكري ليست الوحيدة التي نفخت فيها الحياة مجدداً مع استفحال الأزمة، فمِهن السكافي والخياط والمنجد العربي وسواها عادت تتألق من جديد، حيث ينهمك العمّ عبد الكريم البزري «أبو حسين» (70 عاماً) في إصلاح الأحذية القديمة والمهترئة في سوق الكندرجية الشعبية الشهيرة قرب «القشلة»، يقول لـ «نداء الوطن»: «الأزمة أنعشت هذه المهنة بعدما كادت تندثر أمام غزو البضائع الصينية الرخيصة منذ عقدين وأكثر، عاندنا الواقع وحافظنا عليها كإرث وتراث. ورثت المهنة عن والدي وأزاولها منذ نعومة أظفاري قبل نصف قرن».
وينهال البزري بشاكوشه على حذاء قاوم العفن والإحالة على التقاعد وبدا وكأنه يستغيث من قساوة الأسفلت ليقوم بعد ذلك بتبديل نعله ويبدأ رحلة جديدة مع الأيام القادمة، ويقول: «الإقبال كثيف، كثر لم يعد بمقدورهم شراء الجديد وأجبروا على إصلاح القديم مهما كان حاله، إذ يبقى أقل كلفة. قبل الأزمة كنّا نعتمد على مواسم عيدي الأضحى والفطر حيث يقبل الناس على تصليح أحذيتهم أو لأبنائهم بدلاً من شراء جديدة، بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والغلاء كما يزداد الإقبال على تصليح الشنط المدرسية والسحابات أيضاً».
وتعتمد مهنة السكافية على الخيط والإبرة، بالإضافة إلى بعض ماكينات الخياطة وعدد من أنواع المسامير الصغيرة، فضلاً عن الشاكوش والمقص والشفرة وبعض أنواع التلزيق الخاصة بها، ويوضح أنه لا يشعر بالملل: «زبون يأتي وآخر يذهب، هذا يشكو همه وذلك يعبّر عن ضائقته، فيما لسانه الحلو يواسي الأول ويشارك الثاني»، قائلاً: «لا أشعر بالوقت يمرّ بسرعة، فيصبح النهار قصيراً إذا كثر الزبائن، وإذا كان الطقس ماطراً فإن الزبائن يقلون بالطبع ولكننا في حركة لا تهدأ والرزق على الله».
المصدر : محمد دهشة – نداء الوطن