في الاختبار الأخير للبرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA) خلال دورته الأخيرة عام 2018، حلّ لبنان في المرتبة الأخيرة عربياً والمرتبة 74 عالمياً من أصل 77 دولة مشاركة. هذا البرنامج هو في الواقع عبارة عن دراسة دولية تجري كل ثلاث سنوات وتستهدف الطلاب في الصفوف من السابع إلى الثاني عشر، لقياس مدى اكتسابهم للمعارف والمهارات الضرورية للتفاعل مع المجتمع في جميع المجالات، أكان معارف العلوم والرياضيات والقراءة. وقد شارك لبنان في دورتي العام 2015 و2018، لكن النتائج جاءت للأسف غير مرضية، إذ بلغ معدل علامات لبنان في القراءة 353 (المعدل العالمي: 455)، ومعدل علامات الرياضيات 393 (المعدل العالمي: 460)، في حين لم يتخطَّ معدل علامات العلوم 384 (المعدل العالمي: 460).
للوقوف عند أسباب تدهور المستوى التعليمي في لبنان، بعد أن كان يتربّع في مراكز طليعية لفترات خلت، إضافة إلى انعكاسات الأزمتين الصحية والاقتصادية الحاليتين مع ما نتج عنهما من توقف مستمر للتدريس خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كان لـ”نداء الوطن” حوار مع الدكتور نمر فريحة، الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء، ومؤلّف كتاب “تعليم فاشل، تربية فاشلة” الذي صدر منذ سنتين، وكتاب “مناهج، تعليم عن بعد، تعليم مدمج” الذي سيبصر النور في الأيام المقبلة. فإلى نص الحوار:
أظهرت نتائج اختبار PISA الأخير أنّ المستوى التعليمي في لبنان شبه كارثي على الرغم من إرث البلد الثقافي والتربوي. ما تعليقكم؟
الاختبارات الدولية التي شارك فيها لبنان مؤخراً أثبتت أنّ المستوى التعليمي سيئ للغاية، كما أننا صُنّفنا من ضمن الدول “المتخلفة” اذ احتل لبنان المراتب الأخيرة. وفي تقييم PISA الأخير للعام 2018، تبيّن أنّ الطالب اللبناني متأخر سنتين كاملتين في القدرة المعرفية مقارنة مع مجموعة طلاب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. هذا يعني أن القدرة المعرفية لطالب صف خامس في لبنان تعادل القدرة المعرفية لطالب صف ثالث من حيث المبدأ. فعلى الرغم من أننا نتغنى بمستوانا الثقافي والتعليمي، إلا أن الصورة ليست وردية على الإطلاق.
تمّ وضع منهج تعليمي جديد بدءاً من العام الدراسي 1998-1999 بهدف تحسين المنهج القديم الذي كان معتمداً منذ العام 1968. لكن المستويات التعليمية لم تتطوّر تماشياً. ما هي الأسباب؟
لا شك أنّ المنهج القديم الذي وضع بين العامين 1968 و1971 لم يكن متطوراً بما يكفي، واندلعت شرارة الحرب الأهلية لتعرقل مسيرة محاولات تحديثه أو تعديله. فقد كان من أكثر المناهج القديمة تقليدية. في العام 1997، وُضعت المناهج الجديدة، لكنها لم تكن أفضل حالاً من سابقاتها، إذ أثقل كاهل الطالب بالعديد من المواد المستحدثة، ما أدّى إلى إنهاكه لناحية كثرة المواد بدلاً من تحسين نوعية التعليم. من ناحية أخرى، اعتمد المنهج الجديد على تسهيل مستوى أسئلة الامتحانات الرسمية، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في نسب النجاح والتي تخطت الـ90% في بعض الأحيان. وهنا أشير أنه من السهل جداً إنجاح التلميذ بأقل الكفاءات، لكن هذه السياسة ليست بالمؤشر الصحي على مستوى الحياة التربوية. وكنت قد حذّرت مراراً وتكراراً، خلال توليّ رئاسة المركز التربوي للبحوث والإنماء، من أنّ المناهج الجديدة قد أرهقت الطالب دون أن تأتي بأي عناصر مستحدثة تميّزها باستثناء إضافة مواد عدة. فمناهج 1997 أتت مبتورة حيث توفرت فيها الأهداف والمحتوى إنما غاب عنها عنصران آخران هما استراتيجيات التدريس ونظام التقييم.
ما هي العوائق التي حالت دون تعديل المناهج الجديدة حتى اليوم رغم عدم نجاعتها؟
الضعف الذي رافق تطبيق المناهج، بالرغم من ضعف بنائها، يعود إلى أنّ المدارس الرسمية خضعت ولا تزال لأهواء السياسيين، فالهيئات التعليمية والإدارية تُحدد على قاعدة المحسوبيات دون الأخذ بعين الاعتبار مستوى الكفاءة. أما المدارس الخاصة، فالقسم الأكبر منها تجاري بامتياز، ومن دون أن ننفي للأمانة وجود مدارس خاصة تسعى للحفاظ على جودة المستوى التعليمي. كل ذلك يحصل في حين أن مستوى التعليم يتقدّم في معظم دول العالم لأن القرار السياسي يدعم التعليم فيها، ولا يدمره لمصالح شخصية وحزبية. فتقهقر لبنان لا قعر له على ما يبدو، وهذا ما “فضحته” الامتحانات الدولية التي شاركنا فيها مؤخراً.
كيف تفسرون أنَ المنهج القديم، على مساوئه، خرّج أجيالاً لمعت على أعلى المستويات عالمياً؟
رغم مساوئ المنهج القديم (1968)، إلّا أن نظام امتحاناته الرسمية كان قاسياً جداً بحيث كان “يُفلتر” الطلاب ليتم اختيار الكفوئين جداً منهم. من هنا، كانت الامتحانات تلعب دور التصفية لإبراز النخب من التلامذة، لذا كانوا يبرعون في الجامعات وينطلقون في مشوارهم العلمي إلى مختلف دول العالم. كان هذا قائماً إلى أن حلّت الحرب الأهلية وبدأ معها توزيع الإفادات دون الخضوع لاختبارات رسمية، فأصبحت الشهادة في متناول أي طالب يسجل اسمه، أياً كان مستواه وكفاءته التعليمية. ويمكن القول أن انهيار المستوى التعليمي بدأ مع “أجيال الإفادات” ما أدى إلى تلقّي القطاع ضربة موجعة انعكست سلباً على سمعة لبنان ومرتبته عالمياً. وبعد 22 سنة من بدء الحرب، تركت سياسة منح الإفادات أثرها على “الثقافة التربوية” في لبنان، إذ غاب عنصر الجدية والالتزام في ممارسات الطلاب، وساد جو من الاستهتار والخفة في التعاطي مع موضوع التعليم، ناهيك بالمحسوبيات السياسية والتسهيلات التي يحظى بها المنتمون إلى جهات معينة. كل ذلك ساهم في تراجع المستوى العلمي بصورة ملحوظة، بحيث أصبح عدد النخبة من المتخرجين يعدّ على أصابع اليد الواحدة. وهنا ألفت إلى أنني لست ضدّ النجاح بنسبة 100% شرط أن نكون قد أعددنا طلابنا له بالشكل الملائم، وليس بتسهيل الامتحانات إلى حد تهميشها.
جاءت أزمة كورونا، وتوقّف التدريس الحضوري في المدارس كأحد نتائجها، لتزيد الطين بلة. هل نحن على حافة انهيار تربوي؟
نعم. مع بدء ثورة تشرين وتفشي جائحة كورونا، وما تخللهما من إقفالات متتالية، يمكن القول إننا على مقربة من الانهيار. وهنا لا بد من أن أشير إلى مسألة لم يُسلط عليها الضوء من قبل، ألا وهي أن عدد أيام التعليم الفعلية في لبنان لا يتخطى المائة يوم في السنة الدراسية حالياً (أي ما يوازي 1200 يوم تعليم خلال حياة الطالب المدرسية)، وهو رقم خجول مقارنة مع باقي دول العالم، مثل كوريا واليابان وماليزيا، حيث يتخطى عدد الأيام الدراسية الـ200 يوم في السنة. فعدد أيام التعليم في لبنان لا يعطي الطالب الفرصة الكافية لاكتساب المعلومات والمهارات كما يجب، وتطبيق المكتسبات النظرية من خلال التجارب المخبرية، والتواصل السليم مع الطاقم التعليمي. إذ إن لبنان من أكثر البلدان التي تقفل أبواب مدارسها، حيناً بسبب الأحوال الجوية، وحيناً آخر بسبب العطل الرسمية دون أن ننسى أيضاً الإضرابات وما شابه.
من ناحيتها، أقفلت أزمة كورونا المدارس وتوجهت الأنظار إلى التعليم عن بعد. هنا، تبيّن بوضوح أن الكادر التعليمي غير مؤهل عامة لهذا النوع من التعليم، بعكس الكثير من دول العالم التي كان سبق لها وأدخلت التكنولوجيا في نظامها التربوي منذ عدة سنوات. فالجائحة كانت بمثابة مفاجأة لم يكن الأساتذة مستعدين للتصدي لها، ما وضع القطاع برمّته في موقف صعب لا يُحسد عليه. والدليل يتمثّل في غياب الجدية الذي لمسناه في نظام التعليم المذكور، وكأنه جاء من باب “رفع العتب” ليس إلا للاستمرار في تقاضي الأقساط من الأهل ومزاولة الأستاذ لمهنته. النتيجة كانت حالة من التراجع والانهيار المتواصلين للسنة الثالثة على التوالي. بناء على ذلك، أرى من الضروري الشروع في العمل على برامج جديدة كون التسهيلات اللوجستية للتعليم عن بعد غير متوفرة في لبنان، خاصة أنه ظهّر جلياً ما يمكن تسميته “اللاعدالة التعليمية”. فهناك بين الأهل من تمكن من تأمين الحاسوب والإنترنت والكهرباء لأولاده، في حين وقف كثيرون آخرون عاجزين عن تلبية المتطلبات كافة حتى بات الأمر بالنسة إليهم يشبه حالة “الجندي الذي يتوجه أعزل إلى ساحة المعركة”.
ماذا عن الانهيار الاقتصادي، وهل سيودي هو الآخر بالمستوى التعليمي إلى مزيد من التراجع؟
لقد تقلص راتب الأستاذ أكثر من 20 ضعفاً ومن غير الممكن تحميل الأهل ما يفوق طاقتهم. كل ذلك يأتي نتيجة انعدام الرؤية الواضحة لدى الحكومات المتعاقبة لتجنيب العلم نهاية محتومة. وها نحن في مطلع العام 2022 نرى الأستاذ يدفع أحد أثمان الانهيار، في حين أن الثمن الأكبر يتحمله التلامذة الذين يتخبطون منذ ثلاث سنوات في إكمال رحلتهم الدراسية. التخبط واضح للعيان، حتى ضمن السنة الدراسية الواحدة، إذ إن المدارس الرسمية مقفلة أسوة بالعديد من المدارس الخاصة أيضاً. واللافت أن ليس ثمة إعادة للسنوات الدراسية المتعثرة، وكأننا أمام مشهد متكرر من حقبة “منح الإفادات”. ومن البديهي أن تنعكس النتيجة تراجعاً في القدرات، حتى البسيطة منها كالقراءة، معلومات ناقصة في المواد كافة وطلاباً لن يستكملوا برنامجهم السنوي. ويبقى هناك آخرون، وهم أقلية ممن لديهم القدرة التحليلية والتعلمية العالية تمكّنهم من متابعة تعلمهم من خلال التعلم الذاتي (Self Learning)، ثم مغادرة البلاد للتخصص خارجاً.
هل ترون خطة ممنهجة لضرب المستوى التعليمي خاصة أن الأوطان تزدهر من خلال ثقافة أبنائها؟ وما الحلول المطروحة للخروج من الأزمة؟
أنا لست من مؤيدي نظرية المؤامرة عادة. فنحن من اخترنا طريقنا بأنفسنا عبر انتخاب طاقم سياسي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن. وأقول آسفاً أن لبنان بحاجة إلى انتفاضة كرامة بالمقام الأول. أما عن المستوى التعليمي المتدني، فإني أرى أن الإهمال وقلة الإدراك هما السببان الرئيسيان خلف ذلك. نحن في بلد تعلو فيه مصلحة الأحزاب والزعماء والأفراد على المصلحة التربوية، وكأن التربية ساحة مباحة يستغلها الجميع. إنّ قصر نظر الحكومات المتتالية ساهم بتدمير مستقبلنا، لكن نأمل أن يتحلى الحكام بنسبة أكبر من الوعي لدور التربية في تنشئة الأجيال وبناء الموارد البشرية. فالتربية هي الأساس في بناء مستقبل سليم للوطن. أما بالنسبة إلى الحلول، فهي سياسية بالدرجة الأولى لأن الحكومة هي صاحبة القرار، وهي التي تساهم في تدني المستوى التعليمي. وهنا أشير إلى أنه ليس من الضروري أن يتمتع وزير التربية بخلفية تربوية، لكن فليكن الفريق الذي يعمل تحت إشرافه كفوءاً وصاحب اختصاص في التربية على الأقل.
ماذا عن دور المركز التربوي للبحوث والإنماء؟
المركز الذي أهمل عملية تعديل المناهج منذ 2002، تاريخ إقالتي من المركز حيث كنت قد بدأت بعملية التعديل في منتصف عام 2001، وتم توقيف المشروع في بداية 2002، يعمل حالياً على تغيير المناهج التعليمية بشكل نوعي، آخذاً في الحسبان أسس التعليم عن بعد والتعليم المدمج، في مسعى لبناء المناهج الجديدة على أساس “دراسات الحاجة” كي يتلاءم أكثر مع الواقع ويريح الطالب من مواد لا يستخدمها في حياته اليومية. نعمل جاهدين كي يكون المنهج الجديد أكثر ملاءمة للظروف الراهنة، فنحن نعيش في نظام عالمي معولم لذا يجب أن تُتاح للطالب اللبناني فرصة استخدام مكتسباته أينما حلّ في الخارج. وسوف تُطبّق المناهج على مراحل متتالية، ويُرجّح أن يُعلن عن المرحلة الأولى منه الشهر المقبل، لتليها المراحل الأخرى خلال سنة واحدة كحدّ أقصى. فنحن نقوم بما أوتينا من قوة لإعادة رفع اسم لبنان عالياً واحتلال المراكز المتقدمة مجدداً. اللبناني مجتهد وذكي ويتمتع بقدرات كبيرة، إنما تنقصه مدرسة تنشّئه بشكل صحيح لا من أجل الشهادة فقط، بل من أجل إكسابه مهارات وكفايات القرن الحادي والعشرين، وتخريجه كمواطن مسؤول في مجتمعه ووطنه.
المصدر : كارين عبد النور – نداء الوطن