تحت عنوان “تهديد برفع الدعم وتقنين في حليب الأطفال… “شو منطعمي ولادنا؟”” كتبت ليلى جرجس في النهار:
تبحث سارة عن حليب لابنها البالغ من العمر سنة. تجول على عدد من الصيدليات دون جدوى. جواب واحد على لسانهم جميعاً “ما في عنا”. تتكرر هذه المعاناة يومياً، جولة جديدة وصيدليات جديدة، تحاول لعلّها “تنقش معها”. لم تفكر يوماً أنها ستعيش هذه التجربة في طعام ابنها الذي يعدّ حقاً بديهاً وحاجة طبيعية. تقول: “أعيش بقلق دائم، هؤلاء الأطفال ما ذنبهم، ما ذنبا نحنا. لمَ علينا أن نُذلَّ لنطعم أولادنا؟ نسمع عن رفع الدعم فيزداد الخوف. هناك من نجح في تخزين كميات، ولكن في المقابل دفعنا ثمن ذلك بحرمان أولادنا الحليب”.
تُشاركنا هواجسها، “لم نعد نملك ترف الخيارات، وبدأت أبحث عن بديل للحليب الذي كان يشربه ابني، ولكن حتى البديل لا يتوفر دائماً. نحن في رحلة بحث دائمة، أحياناً تتوسلين وأحياناً تغادرين آملةً إيجاده في مكان آخر. لكن “ما حدا حاسس فينا وبوجعنا”.
جولة على بعض الصيدليات تكشف حجم المشكلة، ولسان حالهم “تقنين لا انقطاع”. ويؤكد صاحب أحد الصيدليات الكبيرة: “لم نشهد مثل هذه السنة التي مرّت علينا. الناس بدا تطعمي ولادها. صحيح، ليس هناك انقطاع بل تقنين حادّ في توزيع الكمية. نحن اليوم نتسلّم ربع حاجة زبائننا، وعند سؤالنا يأتي الجواب: لا توجد كمية كافية”.
منذ 3 أشهر يعيش الناس والصيدليات على هذا المنوال في “تقسيط” الحليب، إلا أنّ الوضع ازداد سوءاً منذ نحو شهر. يقول: “صرنا تنقيط، والناس ليس بيدها سوى البحث في الصيدليات حتى عن بديل لإطعام أولادهم”.
ويشدد على أنّ “الأسعار ما زالت مقبولة، لأنه مدعوم بنسبة 20-30% لكن إن رُفع الدعم عنه يتضاعف السعر (بدك تضربي بـ 2 أو 3 أضعاف)”.
لا يختلف صيدليان على هذا الأمر. تؤكد صاحبة صيدلية أخرى أن “التقنين ازداد، خصوصاً الحليب من سنة إلى 3 سنوات. ويعود السبب إلى عدم وجود كميات كافية، ما يجعل التوزيع محدوداً جداً”.
وتضيف: “خزن قسم من الناس كميات كبيرة من علب الحليب في منازلهم خوفاً من انقطاعه أو رفع الدعم عنه، إلا أنّ عائلات كثيرة دفعت ثمن ذلك بعدم إيجاد حليب لأطفالهم”.
على نية الدعم، وجّه أول من أمس مصرف لبنان كتاباً إلى وزارة المال يشدّد، بصورة ملحّة، على ضرورة وضع الحكومة تصوراً لسياسة الدعم التي تريد اعتمادها، حتى تضع حدّاً للهدر الحاصل. هذا الكتاب ليس الأول من نوعه، ففي 12 شباط أرسل المصرف كتاباً إلى وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني، مطالباً إياه بالإجابة عن نقاط عديدة أساسية، تتعلق بملف الدعم وترشيده والتحويلات الى كهرباء لبنان.
أصبح ترشيد سياسة الدعم بمثابة كرة نار، يتهرب الجميع من تحمل مسؤوليتها أو احتضانها. وبعد عجز الكتل السياسية عن إيجاد حلّ للموضوع، بادر المجلس الاقتصادي بدعوة كل الكتل النيابية والخبراء، لدراسة تصوّر واضح لترشيد الدعم.
وبين الانقطاع التامّ عن بعض العائلات والتخزين المفرط لدى عائلات أخرى، تضاعفت أزمة الحليب دون أن يتمكن أحد من إيجاد حلّ لها. فلا مصرف لبنان يريد تحمل المسؤولية وأن يكون “كبش محرقة جديداً”، ولا الحكومة “تتجرأ على اتخاذ القرار وحدها”، والناس تدفع ثمن هذا التخبّط والفوضى.
يؤكد نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين لـ”النهار”، أن “الطلب يفوق العرض بكثير، ونحن أمام نوعين من الطلب: الناس التي تحتاج حقيقة إلى حليب لأطفالها ولا تملك أيّ علبة، والناس التي لا تثق بالدولة فتعمد إلى تخزين بعض العلب خوفاً من انقطاعها أو ارتفاع أسعارها. وكما نعرف، فحليب الأطفال لمن هم دون السنة مدعوم على الـ1500 ليرة، فيما حليب الأطفال لمَن بين السنة وثلاث سنوات مدعوم على 3900 ليرة”.
لكن المشكلة الأساسية وفق الأمين، “رفض مصرف لبنان توقيع طلبات الاستيراد، ما جعل المستوردين يقننون في كمية التسليم للصيدليات التي تعاني شحّاً ومحدودية”. وفي مقاربة لكمية الاستيراد مقارنة بالسنوات الماضية، يشير الأمين إلى أنه “عام 2018 بلغت نسبة الاستيراد نحو 50 مليار ليرة، فيما ارتفعت عام 2019 إلى 55 مليار ليرة. لكن عام 2020 كان واضحاً انخفاضها بنسبة 20 ملياراً تقريباً، فقد بلغت 36 مليار ليرة. أما عام 2021 (أي خلال الأشهر الأربعة الماضية) فبلغت نحو 10 مليارات ليرة. إذاً انخفاض نسبة الاستيراد يعلّل زيادة الأزمة ووجودها”.
أمس الأول أرسل المصرف كتاباً إلى وزارة المال، يطالبه بإيجاد حلّ سريع لسياسة ترشيد الدعم. وفق الأمين “يريد المصرف من الحكومة اتخاذ القرار، فيما الأخيرة تتهرب من اتخاذه، ولا حكومة جديدة في الأفق. نحن أمام معضلة حقيقية، ومن الطبيعي انقطاع الحليب في ظل غياب حسّ المسؤولية، الكل يتهرب من تحمّل مسؤولياته”.
برأي نقيب الصيادلة، لا خلاص سوى بتشكيل حكومة جديدة تتحمل مسؤوليتها في هذه المرحلة، أو أن تُفعّل الحكومة المستقيلة نفسها. “نحن بحاجة إلى حكومة لاتخاذ قرارات مالية كبيرة كما هي الحال اليوم. يجب اتخاذ قرار على صعيد الدولة ككل، وأن تشارك الدولة بكل أطيافها فيه. حالة الناس يرثى لها، وصرخة الصيادلة أنهم لا يُسلَّمون البضاعة، والمستوردون يُحمّلون مصرف لبنان عدم توقيعه على قرار الاستيراد، والأخير يؤكد عدم قدرته على الاستمرار في هذه السياسة”.
من جهته، يوضح نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة أنّ “نقابته ليست معنية بهذا الملف. لكن كما نعرف، الحليب لمن بين السنة والثلاث سنوات مدعوم من وزارة الاقتصاد على الـ3900 ليرة. لكن ما نسمعه اليوم من المستوردين، هو أنّ هناك تأخيراً في التحويلات إلى الخارج. وتستغرق العملية بحدود 4 أشهر تقريباً بين الحصول على موافقة وزارة الاقتصاد وتحويل مصرف لبنان، وهذه الفترة طويلة ما يؤدي إلى هذا الشحّ الكبير”.
ويضيف جبارة أنّ “المصانع الخارجية تصطدم بهذا التأخير في الدفع، بالإضافة إلى الأخبار اليومية عن توقيف الدعم وعدم توفر الأموال للاستمرار في هذه السياسة. وهذا يؤثر على حماسة هذه المصانع في التعامل معنا وخلق جوّ متوتر وغير مريح، يؤدي إلى فقدان الثقة بقدرتنا على تسديد هذه الاستحقاقات. وعليه، يجب إقرار خطّة واضحة وشفافة، وهذه ليست مسؤولية مصرف لبنان فقط بل الدولة والحكومة، لإعادة هذه الصدقية إلى القطاع الخاصّ حتى نتمكن من الاستمرار”.
(النهار)