بين تنميط أهل الضاحية وبين السعي إلى عزلهم رابط وثيق من جهد يمكن وصفه بالعالميّ، وإن اعتمد على أساليب وأبواق تظهر حدّة لافتة في تدنّي مؤشرات الذكاء والأخلاق الوطنية على حدّ سواء. وما يمكن تسميته بالحرب الثقافية صار واضحًا للعيان بحيث لا حاجة للبحث عن البراهين التي تؤكد وجوده، بعد أن صارت أدواته علنية وواضحة ومباشرة. جولة سريعة على منصات التواصل وما يدور فيها من طرف الجهات المعادية للمقاومة تكفي لإلقاء نظرة على هذه الأدوات التي باتت تشهر كراهيتها علانية، دون حياء ولنقل دون أدنى جهد “عقليّ” يحترم الآخر، وجودًا وعقلًا.
بدايةً، التنميط هو اختزال مجموعة من الخصائص والطباع ووضعها في قالب واحد جامد واعتماده كنموذج يُسقط على مجموعة من الناس، ثم إطلاق الأحكام والاتهامات على النموذج “المخترَع” والوهمي وضمنًا على كلّ الجمع الموضوع داخل هذا النموذج. على سبيل المثال، نموذج “علوشي” الذي بدأ (بشكل مدروس) كمزحة يتداولها الكثيرون لتوصيف الشاب “الشيعي” ثمّ تحوّل إلى صورة نمطية حاول الخبثاء زرعها في الأذهان.
والتنميط لا يقع فقط على الأشخاص المستهدفين، بل يتعداه إلى كلّ ما يحيط بهم. ولهذا، تمّ إدخال “الضاحية” في لعبة التنميط القذرة، في محاولة لا تقل خبثًا عن سابقاتها لجعلها مكانًا منبوذًا ومعزولًا عن محيطه المجتمعي والثقافي والسياسي، عبر تصويرها كمدينة رعب وتخويف. بكلام آخر، الدمار الذي اختبرته الضاحية في حرب تموز ٢٠٠٦ وعودتها “أجمل ممّا كانت”، جعل العدو وأدواته يغيّرون خطة العزل والتدمير، على اعتبار أنّ ما فشلت بتحقيقه الترسانة العسكرية الصهيونية قد تنجح الوسائل “المدنيّة” بتحقيقه.. ومن هنا، لا يمكن اعتبار التنميط أقلّ من أداة حربية حقيقية، بغض النظر عن اليقين بفشلها تمامًا كما فشلت الأدوات السابقة.
بجملة واحدة، يهدف التنميط إلى العزل وتسهيل الاستهداف. وحين نقول تنميط المكان، نحن نتحدّث عن تكثيف السلبيات الموجودة فيه والإضاءة عليها بالتزامن مع تمييعها والتعتيم عليها في كلّ مكان آخر، بحيث يبدو أن الجرائم والاكتظاظ والمشكلات اليومية (حتى البيتية منها) لا تحدث إلّا في هذا المكان وبوتيرة مستمّرة.
على الأرض، كلّ من سكن الضاحية أو مرّ بها زائرًا، يمكنه أن يلاحظ دون أدنى جهد ودون تعمّد حتى، أنّ هذه البقعة الجغرافية تحوي بالشكل وبالمضمون كلّ أنماط وأشكال البيئات المجتمعية بكل الفوارق الممكنة فيما بينها، من التنوّع الديني إلى الثقافي، ومن الاختلاف الطبقي إلى السياسي والفكري. وإن كان رابط حبّ المقاومة واحتضانها يجمع بين غالبية أبنائها، فلا بدّ من ذكر وجود فئات تعلن كراهيتها لخط المقاومة ولحزبها من قلب الضاحية، وضمنًا تعرف أنّها بأمن وأمان مهما تناقضت مع محيطها وهواه. وهنا تكمن علّة استهداف المكان، برمزيته وبكونه ساحة التلاقي على الحبّ مهما كانت الاختلافات التي ما دون هذا الحبّ شاسعة.
لماذا الضاحية؟
كتب أحد “الإعلاميين” في جريدة الشرق الأوسط مقاربته ومقاربة معلّميه حول الضاحية. وضع خيارين لا ثالث لهما: “اختاروا إمّا دبي وإمّا الضاحية!” مستعرضًا العديد ممّا يراه نقاط اختلاف بين المكانين. ربما لم يلتفت أنّهما رمزان لخيارات أخلاقية بالدرجة الأولى، وبالتالي ذمّ الضاحية بفقر أهلها يصبح بمعايير الأخلاق مديحًا، ومدح “دبي” بمظاهر الثراء فيها يصبح بالمعايير نفسها ذمًّا وخيمًا. والأخلاق بالحدّ الأدنى هي الالتزام الحرّ والطوعيّ والمكلِف طبعًا بالحفاظ على الكرامة وبالانتصار للحقّ وبعدم الانبطاح للعدو وأدواته.. وطبعًا لا داعي من الوقوف على كلّ ما ورد في المقال المذكور عنوانه أعلاه منعًا لإضاعة الوقت في التحديق بالحضيض الفكري والثقافي الذي يتفوّق البعض على أنفسهم في بلوغه موقفًا بعد موقف..
نعود إلى السؤال، “لماذا الضاحية”؟ ترمز الضاحية إلى الإباء بمواجهة عار التطبيع، إلى القوّة العصيّة القادرة والمتماسكة مهما تعدّدت وتوالت المحاولات لتطويعها وكسر هيبتها، إلى الحبّ بشكله الأبسط والأعمق والأقرب إلى الفطرة الأولى، كأن ترى طفلًا يحدّق باسمًا مطمئنًا في تمثال العزيز سيد شهداء محور المقاومة، وكأن تشهد على التكافل بين أهل الحي الواحد والأحياء المتلاصقة في زمن اشتدّ فيه الحصار بحيث أصبحت “ربطة الخبز” همًّا يوميًّا وموجعًا، وكأن تلمح في الأزقة ظلال شهداء مرّوا من هنا، بل شبّوا وكبروا هنا، ومن هنا مضَوا إلى مرتبة الحبّ الخالص في الحرب ضد الصهيوني وضد التكفيريّ، بل ضدّ العالم الذي يحتشدُ ويحشد كل ترسانته وكلّ أدواته، وانتصروا.
هذا المكان الذي يحوي هذا الكمّ وهذا النوع وهذه الخامة من الرمزية المقاتلة، لا شك يقع في أعلى لائحة الاستهداف الإعلامي (بشقّيه التقليدي والإلكتروني) والثقافي (بكل وجوهه)، تمامًا كما كانت أبنيته وبنيته التحتية وجهة الصواريخ المدمرّة ذات تمّوز..
فشلت كل محاولات عزل بيئة المقاومة عن محيطها لاعتبارات عديدة بعضها محليّ سياسي واجتماعي وبعضها فرضه الواقع وكرّسته الحتمية بمعنى أن كسر الحدود التي رسمها الاستعمار وهو في أوج قوته واستكباره جعل دائرة هذه البيئة تتسّع وتتلاقى بالدم وبالعرق وبالمشروع مع مثيلاتها فأصبح عزلها محليًّا أشبه بوهمٍ أصيب به البعض حدّ محاولة إسقاطه على الحقيقة. وما التنميط إلّا انعكاس لهذا الوهم المرضي الذي لا يمكن الجزم إذا ما تشكّل فقط كمهمّة أوكلت إلى حامليه أو يتأتى عن عوامل ذاتية تشبه الخراب في الأرواح ولاحقًا تمّ استثماره. في الحالتين، تبقى الضاحية، المكان والرمز والناس حيّزًا من حقيقة واضحة صارخة، تواجه كلّ ما يمرّ عليها بالقوّة وبالصبر وبالصمود وبالإباء، وبالكثير من الحب