الرئيسية - مقالات وقصائد - تقدير موقف: الاحتجاجات اللبنانية والخلل في شيفرة لبنان (المسار-المستقبل)…. مركز الدراسات والابحاث الانتروستراتجية

تقدير موقف: الاحتجاجات اللبنانية والخلل في شيفرة لبنان (المسار-المستقبل)…. مركز الدراسات والابحاث الانتروستراتجية


اندلعت احتجاجات شعبية واسعة في لبنان يوم 17/10/2019 على خلفية حزمة جديدة من الضرائب والسياسات التقشفية التي أُعلنت من قبل أطراف في الحكومة اللبنانية، كان أشهرها وأكثرها غرابة ضريبة 6$ على تطبيق “واتس آب” للتواصل، واستمرت هذه الاحتجاجات وازدادت رقعتها وشعبيتها لتشمل كل المناطق والمدن اللبنانية الرئيسية والفرعية، ليرتفع معها سقف المطالب من الإلغاء والاحتجاج على الضرائب – التي تراجعت الحكومة عنها على الفور – إلى مطلب إسقاط النظام وإسقاط الطائف في لبنان، وإطلاق مسمى “الانتفاضة اللبنانية” على الحراك الشعبي والجماهيري العابر للانتماء الطائفي والسياسي.

إنطلاقاً من التطور المتوقّع للأحداث يقدر مركز الدراسات والأبحاث الأنتروستراتيجية الحراك الحاصل بالانفجار الشعبي المخلّ بالتوازنات المعهودة بين أحزاب السلطة والذي يعيد معضلة السلطة وتقسيماتها إلى الواجهة، ويكشف عن المعادلات الحاكمة للحياة السياسية والاجتماعية في لبنان.

مفهوم السلطة ومعضلتها في النموذج اللبناني:

السلطة بمفهومها المجرّد والمبسّط هي قدرة إنسان على التحكّم الكامل بحياة إنسان آخر، بالتالي هي قدرة فرد أو مجموعة من الأفراد على التحكم الكامل بحياة باقي أفراد المجتمع، وكون السلطة بحد ذاتها شرّ مطلق، ينبع شرّها من عدم جواز تحكم إنسان بإنسان آخر وإدارة واقعه ومصيره، إلا أنها شرّ لا بدّ منه، وحتمية تطوّر البشر أنثروبولوجيًّا، منذ عهد ما قبل الزراعة حيث كانت أُسرًا ترحالية، إلى عهد الزراعة وتكوّن القبيلة والجماعة المستقرة، وصولاً إلى المجتمع وبعدها الدولة، والكيان العابر لحدود الدولة.

وقد برّر الإنسان لنفسه خضوعه لسلطة أعلى منه من منطلق تحقيق الأهداف التي تحتاج إلى تعاون جماعي بين أعضاء الجماعة نفسها، كالأمن والغذاء، ووضع مقابل السلطة، الشرعية كمصدر خيّر مقابل يوازن الشر المطلق للسلطة، على اختلاف مصادرها، فمنها الشرعية القادمة من إله تؤمن به جموع المحكومين، و الشرعية الناتجة الرضا به كأمر واقع، ومنها الشرعية الناتجة عن اختيار المحكومين للحاكم خدمة لمصالحهم.

لا يوجد في لبنان سلطة واحدة مسيطرة وإنما في النموذج اللبناني فإنّ السلطة الحقيقية هي للأحزاب وزعمائها في لبنان، وشرعيتها نابعة من الإله والرضا، وفي حين أنّ الأولى ليست اختيارية وإنما وليدة عقيدة دينية، إلا أنّ الثانية وهي الرضا هي وليدة تحقيق غايات وجود السلطة، وهي الأمن، وتوزيع الثروة (الموارد والأرزاق)، والنمو.

بالتالي سلوك الحكومة اللبنانية ككيان سياسي أشبه ما يكون بكونفدرالية حزبية منه كدولة، يشترك فيها الفرقاء، وفشلها في تحقيق التوزيع العادل للثروة وضمان النمو، سبب ضررًا بالغًا في الركيزة الأولى للنظام اللبناني القائم، وسواءً وَعَى الشعب والجماهير الحزبية المتظاهرة وقيادات الأحزاب بذلك أم لا، فإنّ الاحتجاجات الحاصلة مؤشراً جديًّا وخطيرًا على فشل قواعد النظام في لبنان، وتراجع فعالية أدوات السيطرة لأصحاب السلطة، وليست حركة عابرة تزول دون معالجة حقيقية.

بالتالي المفاهيم السابقة تقودنا إلى ثلاث معادلات (شيفرة لبنان) تحكم مسار ومستقبل الواقع السياسي اللبناني:

الأولى: إذا انخفضت عائدات وأرباح الأفراد من أحزابهم المنتمين إليها، فسيؤدي ذلك بالضرورة إلى حركات تمرّد واسعة، خالية وعاجزة عن حمل أيّ مشروع أو أجندة سواءً كانت هذه الأجندة وطنية أم خارجية.

الثانية: إذا انخفض أعداد المستفيدين من الأحزاب والمنتمين إليها، فسيؤدي ذلك إلى سقوط كل الأحزاب دفعة واحدة، وولادة ثورة حقيقية بمشروع وأجندة جديدة ومغايرة للواقع.

ثالثاً: إذا قام أحد الأحزاب أو أكثر بالتوظيف الكامل لكوادر بيئته وبدأ بالاستقطاب الحاد في كوادر وبيئة الأحزاب الأخرى، فالنتيجة الحتمية هي حرب أهلية غير منتهية (بغض النظر من الأقوى).

هذه المعادلات الثلاث توضح مدى دقة التوازن المطلوب لبقاء الحياة السياسية الحالية في لبنان، وتوضح مدى حاجة جميع الأطراف إلى مراعاة بعضهم البعض وحتى التعاون فيما بينهم إلى حد ما، خاصة وأنّ الأحزاب اللبنانية تتبع لدول خارجية تحدّد أمنها ومصالحها الداخلية، بالتالي الشأن الداخلي السياسي اللبناني شأن اقليمي – دولي تُعنى به كل من (إيران-فرنسا-السعودية-الولايات المتحدة الأمريكية-سورية).

الاحتجاجات اللبنانية ومسارها:

تخضع الاحتجاجات اللبنانية للمعادلة الأولى، حيث بدأت الأحزاب اللبنانية منذ فترة وجيزة بالدخول بشكل تلقائي في الطرف الأول من المعادلة، من حيث انخفاض العائدات والأرباح للمنتمين إلى اأحزاب من أحزابهم، كحالة إغلاق تلفزيون المستقبل، والعقوبات المفروضة على المقاومة وملاحقة مصادر تمويلها…إلخ، ما دفع إلى النتيجة الحالية، أي أنّ الاحتجاجات اللبنانية هي حركة تمرّد واسعة، غير مهيئة للتغيير، أو فرض أجندة جديدة، وغير قابلة للسيطرة عليها، بل مجرّد محاولة السيطرة بالقوة عليها تعني التحول تلقائياً إلى المعادلة الثانية.

مستقبل الاحتجاجات اللبنانية:

من المؤكد أنّ الاحتجاجات اللبنانية ستستمر بمنحنى هرمي بلغ ذروته في الأيام الحالية، والأيام القليلة القادمة، ثم يبدأ بالانخفاض تدريجياً بشكل تلقائي، بعد ملامسة النتائج الفعلية للإصلاحات الحكومية، بالرغم من رفضها في البداية، إلا أنّ محاولة الاحزاب للانتقام من بعضها البعض قد تدفعها إلى زجّ جماهيرها مع المتظاهرين لمهاجمة خصومها، والذي بدوره سينقل الصراع السياسي بين الأحزاب إلى الشارع، في حال سقوط الحكومة، أو فشلها مجدداً.

وبشكل عام لا يختلف كثيراً مستقبل الاحتجاجات اللبنانية عن مستقبل احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، على الرغم من الاختلاف الجوهري والجذري بين النموذجين.

الاحتجاجات اللبنانية وتأثيرها على دول الجوار:

بكل تأكيد تتشابه بعض الجوانب والأسباب الأساسية لظاهرة الاحتجاجات في لبنان مع المحيط الإقليمي، وخصوصًا العراق، الذي يعدّ النسخة الأكثر تعقيدًا وسخونة من النظام اللبناني، الأمر الذي سيعطي دفعة قوية لاحتجاجات العراق، ويفتح سيناريو جديد في الداخل العراقي، ما سيترك الحكومة والمجتمع السوري بحالة تأهب شديد، والذي ظهرت بوادرها بإلغاء الحكومة السورية للحظر غير المعلن لتطبيق “الواتس آب” في سورية على الفور، ومن الممكن في حال اشتعال الساحة العراقية، امتداد التأثير إلى سورية بنسبة كبيرة، خاصة أنّ الوضع المعيشي الداخلي في سورية أسوء بكثير من الوضع المعيشي في لبنان، إلا أنّ اختلاف طبيعة السلطة في سورية وأدوات السيطرة والظروف التي تمر بها الدولة في سورية، يتيح للحكومة السورية ضبطًا وتحكمًا أكبر في الشارع السوري.

الاحتجاجات اللبنانية ومصالح الدول الخارجية:

يحكم لبنان عدة صراعات إقليمية ودولية:

الأول: الصراع الإيراني –السعودي: هذا الصراع كان دائمًا محرّك الحياة السياسية في الداخل اللبناني، إلا أنّ تراجع السعودية عن مشروع الإسلام السياسي، ترك التيار السنّي في لبنان متخبّطًا وخالياً من مرجعية إقليمية، وأشعل المنافسة بين كل من الإمارات وتركيا، لتتبيع التيار السنّي اللبناني بها، وكون العلاقات الإماراتية الإيرانية في تحسّن مستمر، فليس من مصلحة أيّ من الطرفين تحول لبنان نحو الفوضى، أو سقوط النظام اللبناني.

الثاني: الصراع الإيراني – الأمريكي: تدرك واشنطن جيدًا طبيعة الاحتجاجات في الداخل اللبناني، وتعلم مسبقًا أنّ حزب الله قادر على السيطرة على كل لبنان سواءً بواجهته المباشرة أم بواجهة أخرى، وهو سيناريو غير مرغوب به على الإطلاق، لما له من تبعات خسارة أمريكا لحلفائها والقوى المتعاونة معها في الداخل، لصالح حزب الله، وهو أمر قد أكدّ عليه سابقًا السفير الروسي بلقائه الذي تحدّث عنه عن دفع أمريكا بلبنان نحو الفوضى، أي أنّ مصلحة واشنطن في إضعاف لبنان وحزب الله دون الانهيار، والحرص على عدم نموّ لبنان وتطوّر النظام اللبناني من جهة أخرى.

وما التصريحات الأمريكية المتعاطفة مع المتظاهرين والمحذرة من قمعهم، إلا من مبدأ الواجب الأمريكي كون واشنطن تعتبر نفسها الراعي الأول للحريات والديمقراطية في العالم، ومن مبدأ تقديم الحل منعًا للانهيار الذي تتخوّف منه.

بالتالي لا مصلحة لأي طرف إقليمي أو دولي في انهيار النظام اللبناني، ولا قدرة للاحتجاجات اللبنانية وليدة المعادلة الأولى على حمل أجندة خارجية.